Translation

Exchange Rates

יוני 14, 2022


דולר ארה"ב 3.446 0.17%
אירו 3.594 -0.13%
דינר ירדני 4.860 0.17%
ליש"ט 4.172 -0.51%
פרנק שוויצרי 3.466 0.12%
100 ין יפני 2.567 0.40%

Data courtesy of Bank of Israes

حرّاس التبويل

ג'ואד בולוס-, 13/7/2013

في بلادي ينقص العمر بسرعةِ طلقة، الأرق وحده يحافظ على شبابه. مجيئه في الليالي يذكّرني بما كرهتُ من دروس الثانوية. شابًا عشقتُ التاريخ واللغات وحبّي للجغرافية كان ملتبسًا، في اللغة وجدتُ ضالّتي وطرب قلبي على وقع حروفها والموسيقى.ابتعدّت عن الرياضيات بجبرها- وإن عزوناه لعبقرية عربية - وكسورها التي أوقعتني في سن مبكّرة. هندستها كانت في زماننا مستوية بسيطة، بهرتني قوانينها القصيرة كأمنية. كنت رسّامًا فاشلًا فلم أهوَ الأشكال، إيقاع الحروف كالنبض اصطادني فنمت على صدر قصيدة وهوى. أذكرها اليوم فلقد بدت لي سهلةً، أسماها معلّمي بالمتوالية الهندسية، فيها يضاعف العدد ذاته بخفّة وطبيعية تمامًا كما يتوالى ويسكنني أرق الليالي، هكذا يجيء الصدى كهلًا، كلّما تبتعد البدايات يكون طعمها كطعم الموج حين ينزف من خاصرة وطن جريح. كبرت على يقينين؛ قلبي معدٌّ للريح والعاصفة ولساني سيفٌ مشهرٌ كرمح "جوارجيوس" يهوي في حلق كل تنين مارق وشيطان. سأكون كما أعدّت لي الخرافات، محاميًا. لن أجيد من الفنون إلّا القفز على المسارح، راقصٌ على إيقاعات الخناجر أو سيّدٌ في بيوت للدمى. لن أكون إلّا كما في الحلم، عاشقًا للعبث والخسارات أحتمي بقلبي وبدعاءات الفقراء والمقموعين. هكذا مضت ثلاثون من عمري وأنا أحاول أن أرسم بسمة على ثغر أم فلسطينية عاثرة، وأن أزرع وردة في نتوء ذلك الجدار الذي يقيمه المحتل فوق صدور أبناء الأرض والزمن. من منكم سمع عن احتلال عادل أقام أمجاده على خرائب شعب يسعى وراء نسمة وعشب وجديلة. من منكم يدلّني على محاكم أقامها جيش مدجج بعقيدة وسلاح وجشع قد تصير أغنية ولحنًا غيرَ عسكري. صرت محاميًا منذ ثلاثين عامًا في محاكمَ أعدّها المحتل الإسرائيلي كي تقفل الدائرة على الفلسطيني، وما لا تنجزه الرصاصة ينجزه "قانون" وكرباج وحاكم. هم أقوياء كما الباطش قوي، ولكنني أستطيع أن أقرأ ما سيكتبه التاريخ الذي أحببته يافعًا، أهولاكو تحبون أم الصفاء في دجلة الأزرق الزاهي؟ بعضهم تعب من وصايا "يوشع" وانسحب إلى بقايا ظلال ضمير، أمّا أنا، أمير الخسائر والهزائم، فأصرّ على أن أفهم "قضاتهم" "كيف يبني حجرٌ من أرضنا سقف السماء"، هكذا علّمني التاريخ الذي أحببت أنّ الحكمة كانت دائمًا في الحجر. لا جديد في احتلالهم، الوجع ذاته، طعمه متغيّر، هل تصدقون أنّ للوجع في فلسطين مذاقات، نحن شعب نرفض الرتابة في التذوق، نحتكم إلى غريزة الإنسان فينا لنبقى أقوى من حربة وأصلب من قهر. أحيانًا، لولا خشيتي من الكفر، أكاد أشفق على شبابهم. كيف سلبهم الاحتلال ما وهبهم الله حين خلقهم على صورته ومثاله، فهم ليسوا أكثر من أكوام عظام مكسوة شرًا على هيئة لحم مصنّع. هكذا أحسست قبل أيام عند زيارتي لمستشفى "أساف هروفيه". هناك يرقد "أيمن حمدان" و"عماد البطران"، أسيران فلسطينيان معتقلان إداريًا. لم يُتَّهما بأي تهمة ولم يحقَّق معهما حول أية شبهة. أضربا منذ أسابيع عن الطعام، ساءت حالتاهما فنقلا إلى مستشفى مدني لرعايةٍ يرفضان أن يتلقياها قبل أن يعتَرَفَ بهما بشرًا. في غرفة في أحد الأقسام الباطنية يتواجد بجانبهما ستة من حرس السجون. وضعوا أسرَّتَهما بوجهة معاكسِة ضمنت أن يكون وجه كل واحد منهما قبالة الحائط بما يكفل عدم مشاهدتهما بشرًا ولا حتى من يمر في ممرات ذلك القسم. ربطت يد كل منهما اليمنى بطرف السرير وساق كل منهما اليسرى بطرف آخر كي لا يستطيع الواحد منهما تغيير قعدته كما تفعل البشر. عندما يخبرأحدهما عن حاجته لدورة المياه ينتظر سجّانهم إذنَ القيادة الذي قد يتأخر لساعة أو أكثر، وبعد مجيء الإرادة السامية ويسمح بدخول الحمّام يجبران على إبقاء بابه مفتوحًا، أمامه يتخوزق الحرّاس للإشراف والحراسة. عندما سألت حرّاسهم عن أسباب هذه التصرّفات غير الإنسانية، جاءت إجاباتهم،كما أجاب كل الطغاة الصغار عبر التاريخ: هذه هي التعليمات "من فوق". لم تسعفني كلّ الاحتجاجات ولا الشكاوى، حتى عندما نقلتها إلى فوق تبيّن أن "فوق" الظالمين قعر مفخوت لا يطاله بشر ولا يدركه وعي ومنطق. هو مسرح العبث، حيث اللامنطق قانون وممارسة، هي ساحات لغبار مَن مِن طين الخرافات قدّوا وأصبحوا أجسادًا مجوّفة تعتزّ بحراسة التبويل وتعتبرها مهمة وطنية سامية. أحس بهزيمتي مرّة أخرى، أي عدل جئت تلتمس وأي حلم تنشد؟ كيف يُقارع سفيه، جاهل وحاقد؟ أنظر في وجوههم، ستة شبان، لا أرى إلّا تلك الصفرة البلهاء وكأنّها وجوه دمى تنتظر أن يبعث بها خالقها بعضًا من حياة. أهمّ بترك الغرفة مغلولًا حزينًا. قلبي الكهل متعب لم يُبقوا له شرفة صغيرة ليحزن بصمت. قبل مغادرتي أحاول أن أخفّف عن الأسيرين وأعدهما بأنّني لن أكفَّ ولن أيأس، فأنا لا أجيد من المهن ألّا ما أعدّته الخرافة وأحلام الطفولة. يريدوننا أن نستسلم ونيأس ولكن، هكذا قلت لأيمن وعماد، أصبحت في عمر مضى بأسرع من طلقة وليلي يتوالى عليه الأرق كتلك المتواليات التي لم أحبّها، أرقي صاحبي ورفيقي فلا أبالي بهؤلاء الستة ولا "بفوقهم".. وكأنّهما أحسّا بغصّتي، قاطعاني وبسمة على محيّاهما وأصرّا برفق: "لا تقلق"، كل هذا الصلف يزيدنا صلابةً يا أستاذ. "ألا ترى أنّهم مهزومون، نحن أحرار وإن كنّا نتألم ونشقى، دعهم يغرقون في سفاهتهم فمتى يا أستاذنا جادلت جاهلًا وانتصرت عليه؟ لقد اقتلع الاحتلال قلوبهم وأغشت القوة بصائرهم". تركت الغرفة مفعمًا بحرّية وراحة جميلة وعبرة: لحارس الحلم مستقبل أمّا لحارس التبويل فطعم الملوحة والخسارة.