Translation

Exchange Rates

يونيو 14, 2022


דולר ארה"ב 3.446 0.17%
אירו 3.594 -0.13%
דינר ירדני 4.860 0.17%
ליש"ט 4.172 -0.51%
פרנק שוויצרי 3.466 0.12%
100 ין יפני 2.567 0.40%

Data courtesy of Bank of Israes

حديث القهوة- قصّة غير تقليديّة-بقلم سعيد نفاع

26/8/2013

ما زال اهل بلدنا يتندرون حتّى اليوم ورغم مرور السنين بردّ محمود الفرّاج على خاله زعيم الحارة، عندما قدّم له "فنجان" من القهوة "السادة" أو "المُرّة" حسب تسميتها الأخرى، والتي لم تخل "مضافته" منها يوما، حين زاره يتفقد شيخوخته، إذ ردّ: - قهوتك دايْمِة خالي... خليها للأوادم !
ولم تكن تنقص الخال سرعةُ الخاطر وخفّة الظل وهو المشهور فيهما، فأجابه مبتسما: - ليه انت يا ابن اختي هامل يعني ؟!
طبعا لا محمود قصد ذلك ولا خاله قصد ذلك، فمحمود على نياته الصافية بشهادة كل أهل البلد، لا شكّ أراد أن يوفر على خاله الفنجان، فبيت خاله "واسع باب الدار" لا يخلو من الأوادم محليّين وضيوف. لكن محمود ما كان ليقول ذلك لولا ندرة القهوة في تلك الأيام وغلاء سعرها، فاستغنت عنها حينها بيوتات القرية اللهم إلا في المناسبات الخاصة، وكانت وقفا على بيوتات كبار القوم. أمّا نحن الصغار ومنّا من لم يشم يوما رائحة القهوة في بيته ولم يذق طعمها طوال سنيّ عمرة القليلة، فوجدت شلّتنا الطفوليّة السبيل لشربها ومتى شئنا وحتى "الثمالة" متخطين كلّ الحواجز بيننا وبينها، أمّا كيف كان ذلك فالفضل فيه يعود لسلمان رفيقِنا الذي جعلته الحاجَة يخترع أو يكتشف الطريق إليها، وكثيرا قبل أن نتعلّم في المدرسة المقولة: "الحاجة أم الاختراع"، وقد كلفنا ذلك أحيانا أثمانا من الكفوف على أنحاء مختلفة من أجسادنا وليّ الأذنين من الشيخ أبو شكيب الما زال حيّا ومن غيره، زجرا لنا عن تدنيس قدسيّة جور "خميرة" القهوة بجانب المضافات. القهوة "السادة" ما زالت في بلدنا تتربّع العرش رغم امتلاء البيوت ب"الإسبرسو" و"الكابوتشينو" و"الأميركيّة" و"التركيّة" و"النيس كفييه" وإلى ما هنالك، وما كان لمحمود أن يجيب خاله بما أجاب ولسلمان أن يكتشف اكتشافه مدفعا إيانا ثمن الاكتشاف أكثر كثيرا من الفائدة التي جنيناها، لولا لم يكن للقهوة تلك الخاصيّة عند العرب ذوقا ومكانة وخصوصا السادة منها والتي ربّما اخذت اسمها من كونها مشروب السادة وليس لخلوها من السكر كما يذهب البعض. كبرنا سلمان وأنا والشلّة وافترقت طرقنا، إلا أن حفلاتنا "القهويّة" ظلّت جزء من ذكرياتنا كلّما التقينا، وفي أحد اللقاءات اقترح سلمان أن نزور الشيخ "أبو شكيب" نتذوق قهواته وحكاياته عن القهوة هذه المرة، وليس كفوفه على شتّى أنحاء أجسادنا ولا أصابعه الخشنة على شحمات آذاننا، وهو من القلائل في البلد الذين ظلوا حافظين للقهوة السادة فضلها، دائبا أن يقدّمها حتّى لكل مارّ أمام بيته تلمحه عيناه، وإن أسعف ذلك المارّ الوقت أسمعه من حكاياتها الكثير. لم يكد طعم قهوته السادة يفارق حلقينا حتّى راح أبو شكيب يسألنا ودون أن ينتظر منّا جوابا، يجيب، والحق أقول لو كان انتظر منّا إجابات لكنّا تبهدلنا لجهلنا: - بتعرفوا ليش القهوة اسمها قهوة؟ - لأنها بْتِقْهِي، يعني بتذهب بشهوة الطعام! - واسمعوا شو قال العرب فيها: " يا ما أحلى الفنجال مع سيحة البال... في مجلسٍ ما فيه نفس ثِقيلَه... هذا وِلد عم وهذا وِلد خال... وهذا رفيق ما لقينا مثيلَهْ". ورغم أننا من جيل "البين وبين" إلا أننا وجدنا أنفسنا وقد أنستنا "الأسبرسو" الكثير عن قهوتنا العربية وبالذات السادة، ومِمّا رواه أبو شكيب ووسط النظرات المتبادلة بيننا فيها نوع من الحسرة، فروى، والكلام بلساني، إن لم تخنّي الذاكرة:
"أن على المضيف أو المعزّب بلسانه، ان يسكب لضيفه ثلاثة فناجين من القهوة العربية خلال "الضيفة"، وأن معنى ذلك المزيد من الاحترام والتقدير لهذا الضيف. فالفنجان الأول تكريم مباشر للضيف ويسمى بفنجان الضيف، أما الفنجان الثاني فهو أن المضيف يتوسم في ضيفه صفات الفروسية وقوة الشكيمة ويسمى فنجان السيف، أما الفنجان الثالث ويسمى فنجان "عازات الزمان" أي بمعنى أن المضيف يثق بقدرة ضيفه على الوفاء وإغاثة الملهوف، وهنا فإن الضيف إذا اكتفى بالفنجان الأول فهو يقلل من شأن نفسه فهو يدلل على أن صفة الفروسية وإغاثة الملهوف لا تنطبق عليه ." وتابع دون أن ينتظر منّا تعليقا: "وتقديم القهوة العربية للضيوف يتم بسكبها لأبرز شخصية من الضيوف وبعد ذلك يتم سكبها لبقية الضيوف بالتسلسل بعكس تقديم الشاي او أي مشروب آخر للضيوف والذي ينبغي ان يقدم من اليمين مباشرة ، لذلك يقال: "القهوة خصّ والشاي قصّ". وفي الشاي "ابدا على يمينك حتى لو كان أبو زيد الهلالي على شمالك". " والمعروف ان تقديم القهوة العربية هو دليل الكرم والجود وهو واجب ملزم في مختلف المناسبات الخاصة، ثم بواسطة فنجان القهوة تحل الكثير من المشاكل والمعضلات، فاذا كان لاحدهم حاجة عند شخص اخر وحضرت الجاهة إلى هذه الشخص فان كبير الجاهة ومرافقوه عموما يمتنعون عن شرب فنجان القهوة مشترطين على مضيفهم ان يلبي حاجتهم قبل شربها، ومن الواجب على المضيف هنا ان يقول لضيوفه "اشربوا قهوتكو والله يحييكوا في اللي بقدر عليه "، هذا اذا كان لا يعرف ما هي الحاجة المطلوبة منه، اما ان كان يعرفها فيقول "اشربوا قهوتكو والله يحييكوا في اللي ودكو اياه"". وحسب ما روى أن القهوة إن لم تُحضّر بأدواتها الخاصّة فقدت لذتها: "فلإعداد القهوة العربية ادواتها، أولها "المُحماسة" وهي اداة معدنية على شكل صحن ولها مقبض طويل، حيث توضع المحماسة فوق النار المشتعلة وتفرغ فيها القهوة من المكان المحفوظة فيه ويسمى "الضبية" وهي كيس من الجلد، ومن ثم يصار إلى تحريك القهوة الموجودة في المحماسة بواسطة ذراع حديدية ايضا تسمى "يد المحماسة". وبعد أن تحمص القوة جيدا توضع في ما يسمى " الجرن" او "النجر" وهو تجويف خشبي يصمم من الخارج بشكل هندسي، وتدق القهوة فيه بواسطة يد خشبية ثقيلة تسمى "يد الجرن" وتكون مصممة بشكل هندسي ايضا، ويشترط في من يدق القهوة في الجرن أن يكون ذا اذن موسيقية بحيث يصدر اثناء عملية الدق نغمات جميلة تجذب الاحساس، وهي ايضا بمثابة دعوة لسكان المضرب او الحي لشرب القهوة. ومن ثمّ توضع القهوة ومعها البهار في وعاء نحاسي كبير ليتم غليها، البعض يسميه "ابريق الحميل" ، والحميل هو متبقيات القهوة الصلبة بعد غليها، وان كان الشخص مقتدرا يضيف اليها جوزة الطيب، وهنا عندما يفتخر الإنسان بالقهوة يقول: "الدلة تسكب على الفنجان... وبهارها جوزة الطيب" أو "الدلّة اللي ما تبهر من الهيل... مثل العجوز اللي خبيثً نَسِمْها". وبعد غلي القهوة تفرغ في اوعية اصغر تسمى "الدلال" ومفردتها "دلة"، وتبقى الدلال ملازمة للنار لتبقى القهوة ساخنة دائما لأنها أن فقدت شيئا من سخونتها يتغير طعمها ولا يستساغ شربها وهنا يقال "القهوة فاكه"، اما أن خالط طعم القهوة مذاق غريب فيقال "القهوة صايدة"، أي انها تعرضت لمؤثر غير في نكهتها الاصلية، وصفتا القهوة الفاكه والقهوة الصايده معابة على مقدمها، اما ما تسكب فيه القهوة للضيف يجب أن تكون فناجين مصنعة من الخزف الصيني، وعلى رأي أبو شكيب فناجين الزجاج لا تنفع للقهوة، وكل ما كان الفنجان أكبر وبابه أوسع فذلك أحسن لأن الشارب يتذوقها ويشمها معا". طاب الحديث ل"أبو شكيب" وما من شكّ جذبنا وكمن انطبق علينا مثل "دخول الحمام مش مثل خروجه"، لم يكن من اللياقة أن نقاطعه أولا والأهم بعد لم يسكب لنا الفنجان الثاني، ولم يبن عليه أنه أنهى حكاية القهوة، فتابع: "وعند بعض العرب الأمر يختلف في عدّ الفناجين. فالأول "فنجان الهيف" وهو الذي يحتسيه المعزّب قبل أن يمد القهوة لضيوفه ليطمئن المعزب على قهوته والضيف على ما هو مقدّم إليه خصوصا إن كان بينه وبين المعزّب خصومة وجاء البيت دخيلا. أمّا الثاني ف"فنجان الضيف" وهو واجب الضيافة والضيف مجبر على شربه إلا في حالة العداوة أو إن كان له طلب صعب عند المضيف لا يشربه إلا بعد أن يأخذ على المضيف وعدا بتنفيذ الطلب.
وقد كان من عظائم الأمور عند البدو أن يأتي إنسان إلى بيتك ولا يشرب قهوتك لعدم وعده بتلبية الطلب فيلحق بك ذلك العار بين الناس. وأمّا الثالث، وهو الثاني للضيف فهو "فنجان الكيف" والضيف غير مجبر على شربه ولا يضير المعزّب إن لم يشربه الضيف، وهو الأقل قوة في سلّم عادات العرب كونه مجرّد تعديل كيف ومزاج الضيف ولذا فهو حر أن يرفضه وليس في ذلك مسٌّ لا به ولا بالمعزّب". عند هذا الحد ومن خلال حديثة كانت يد أبو شكيب تتناول مصبّ القهوة النحاسيّ أو ما يسمى ال"غلايّة"، اللامع اللهم إلا من مشحات من السٌّخام العالق بها بعض الرماد على أسفل الغلايّة من أثر الجمر والرماد في المنقل، وعند العرب في بيوت الشعر كان يّسمى موضع النار "النُقرة"، كان يتناوله مادّا إياه نحونا بفنجانين أخريين هما الثاني لنا، فشربنا وهو متابع: "والفنجان الرابع الثالث للضيف فهو "فنجان السيف" وهذا الفنجان لدى عرب البادية غالبا ما يُترك لأنه أقوى فنجان، إذ أنه يعني أن من يحتسيه فهو مع المضيف في السراء والضراء ومجبر في الدفاع عنه بحدّ السيف وشريكه في الحرب والسلم يعادي من يعاديه ويتحالف مع حلفائه حتى لو كان من بينهم في الأصل أعداء للضيف، فهو عبارة عن عقد تحالف بين المضيف والضيف، فكان الناس يتحاشون شربه درء لما لا تُحمد عقباه بالتزام لم يُخطّط".
وصبّ لنا أبو شكيب الثالث مبتسما أقرب إلى الضحك قائلا: - أشربوا لا تخافوا خلصت أيام الأحلاف وأنا في التسعين لا سيف عندي ولا بارودة، وبتنهيدة عميقة كلّ أجيالي أعطوكوا العمر... وراح يتابع دون أن ينتظر منّ ردّا أو تعليقا:
"هنالك "فنجان الفارس" حيث يكون هنالك من يطلب شخصا ما بدم أو ثأر أو ما شابه، فكان شيخ القبيلة أو كبير في السن أو امرأة يجمع شباب القبيلة وفرسانها ويصب القهوة في الفنجان ويرفعه عاليا على رؤوس الأشهاد وأمام الجميع ويقول: هذا فنجان فلان بن فلان من يشربه؟ أي من يأخذ حقنا أو ثأرنا أو دمنا منه؟ فيقوم أحد الفرسان ويقول: أنا له... ويأخذ الفنجان ويشربه، ويذهب في طلب ذلك الشخص ولا يعود إلى قبيلته إلا بعد إحضار البيّنة أنه انتقم لصاحب الفنجان من الشخص المطلوب، وإلا فله واحد من خيارين: إمّا أن يجلي عن قبيلته فلا يعود إليها أبدا لما لحقه من ذل وعار وسم بهما جبينه، وإمّا أن يعود محملا بالخزي والعار ويصبح مدعاة لسخرية أفراد القبيلة صغيرها وكبيرها رجالا ونساء ولا يتزوج منها ولا يخرج للحرب مع فرسانها". - أهلا وسهلا.... قالها أبو شكيب ربّما للمرة العشرين، لكنها هذه المرّة كانت إيذانا بإنهائه حديث القهوة، وكان قد سرق منّا ما لا يقل عن ساعة، والحق الحقّ أقول جذبني حديثه لدرجة لم أشعر معها بمرور الوقت، ولو كان تحدث ساعة إضافيّة لما كنت أنظر إلى ساعتي ليس لقلة انشغال وإنما احتراما لتراث يندثر من بين ظهرانينا مع اندثار هذا الجيل. أعادني من أفكاري سلمان لقوله: - ليه كنتو تحطوا خميرة القهوة في جورة خاصّة جنب المضافة؟! - القهوة مشروب الأوادم ومباركة وحرام ترتمي خميرتها مع الزبالة وتماما مثل الخبز... خميرة القهوة وبقايا الخبز يندفنوا في الأرض... التفت سلمان إليّ كمن وجد تفسيرا لسبب الكفوف وليّ الآذان التي ذقناها صغارا ومرّات من أبو شكيب نفسه حين كنّ نغزو الجور لأخذ الخميرة وصنع القهوة طبقا لاكتشافه حينها، إذ كان صنع شبه أبريق وفناجين من علب "مكابيس" من مخلفات اليهود الذين كانوا يزوروا قرانا كثيرا تلك الأيام. قليل من الماء والنار بالإمكان كان توفيرهما، وبقي علينا القهوة فكنا نغزو، الجريؤون منّا، جور الخميرة بجانب المضافات القليلة في البلد نحمل منها الخميرة صانعين منها في "إبريق" سلمان شبه قهوة في إحدى حواكير الحارة نشربها متلذذين. - يا ما أكلنا كفوف وشد آذان منك يا أبو شكيب... على الجورة... فضحك وعلّق: - هو انتو القرود اللي كنتوا تنبشوا الجور ؟! وانتهت زيارتنا بفنجانين رابعين دون أن يلزمنا ذلك لا بحلف مع أبو شكيب ضد أعدائه، ولا بأخذ ثأر وتحملّ عار الفشل أمام القبيلة. وليس قبل أن أقول ل"أبو شكيب" قبل أن اتناول الفنجان من يده : "دايمة قهوتك... خليها للأوادم"، فضحك أبو شكيب ملء فيه قبل أن يقول: "الله يرحمك يا محمود ويرحم خالك". أوائل آب 2013