Translation

Exchange Rates

يونيو 14, 2022


דולר ארה"ב 3.446 0.17%
אירו 3.594 -0.13%
דינר ירדני 4.860 0.17%
ליש"ט 4.172 -0.51%
פרנק שוויצרי 3.466 0.12%
100 ין יפני 2.567 0.40%

Data courtesy of Bank of Israes

سيرة ومسيرة لمناضل عربيّ عروبيّ يُدعى الياس شكري شوفاني

هيئة التحرير, 3/4/2013

ولد الياس شكري شوفاني سنة 1932، لوالديه السيد شكري شوفاني والسيدة قطف غرزوزي - شوفاني، في قرية معليا الرابضة على إحدى روابي الجليل الغربي الأخضر، تطل على البحر المتوسط من الغرب وعلى سهل عكا وخليجها، وجبال الكرمل الخضراء من الجنوب وعلى سهل الزيب وجبال المُشَقَّح التي تنتهي برأس الناقورة من الشمال. كان والده أحد وجهاء القرية، يعتاش من الزراعة التي كانت توفر العيش الكريم لسكان القرية وكان يملك أيضا طاحونا وبستانا بجواره في وادي القرن، الغزير المياه، الواقع إلى الشمال من القرية. عُرِفَ الوالد بمُروءته ووطنيته الفياضة وحرصه على تعليم أولاده. عندما نشبت ثورة 1936 أوكلت إليه القيادة المحلية فدأب على جمع التبرعات من الأهالي لشراء السلاح وألَّف فريقا من المقاتلين من أبناء القرية للذَّودِ عن حِياضِ الوطن المُهَدَّد بالضَّياع وخاض معهم العديد من المعارك خلال سنوات الثورة والحرب التي تلتها سنة 1948. وعندما سقطت القرية في أيدي القوات الصهيونية في نهاية شهر تشرين الأول لسنة 1948 أقدمت على نسف بيته بالمتفجرات انتقاما منه. من الجدير بالذكر أن نسف البيت ترك في نفس الفتى الياس وقعاً لا يمحى وجرحا عميقا ظل ينزف دون انقطاع رغم مرور الزمن، وقد كان لذلك أثر كبير في حياته ومواقفه النضالية في ما بعد، وقد كتب عنه في كتاب سيرته الذاتية «مرثية الصفاء»: «أحسست بالاحتلال ينزع عني بعض سمات إنسانيتي، ويشوّه وجودي الحضاري ليجعل مني مخلوقاً بدائياً حقيراً. فمن البيت العامر الذي يعجُّ بالحياة في أحضان العائلة الكبيرة - ستة إخوة وأختان والوالدان - إلى طاحون ماء معزول في زاوية من واد وَعِر، ربما تستهويك زيارته، ولكن ليس العيش فيه. هذا مسخٌ للوجود سبّبه الاحتلال، فهل يمكن التصالح معه والعيش في ظلّه؟ لم تتوفّر لديّ في حينه أجوبة على الأسئلة الكثيرة التي جالت في خاطري خلال سنين بعد الحدث، ولكنها جميعاً انعكست في سلوكي اللاحق إزاء ذلك الاستيطان العنصري البغيض، كما في مواقفي منه» في ربوع تلك البقعة الساحرة من فلسطين، وفي الأحضان الدافئة لتلك الأسرة الكريمة، نشأ وترعرع الفتى الياس، وعندما شبَّ كان يشارك والديه وإخوته العمل في الحقول والكروم، شأنه في ذلك، شأن جميع فتيان القرية وفتياتها في ذلك الوقت، حيث كانت الأرض الخصبة المعطاء، ترتوي بعرقهم ويتغلغل حُبُّها في عروقهم مع كل مطلع شمس ومع كل ضربة مِعوَل. انتقل في سنة 1945 إلى مدينة عكا، بعد أن أتم دراسته الابتدائية في مدرسة القرية، حيث درس في «ثانوية عكا للبنين»، لكن حرب سنة 1947-1948 حالت دون إتمامه دراسته الثانوية فيها. أبعدته السلطات الإسرائيلية إلى الأردن في أوائل سنة 1949، مثل الكثير من الفلسطينيين، ثم عاد متسللا إلى قريته واستقر فيها، وأخذ يدرِّس في مدرستها في السنة الدراسية 1951-1952 ولمدة تسع سنوات، بعد أن أنهى دورة لمدة ستة أشهر لإعداد المعلمين في يافا. دفعته رغبته الجامحة في التحصيل العلمي للالتحاق بالجامعة العبرية في القدس الغربية، سنة 1959 لدراسة تاريخ الشرق الأوسط واللغة العربية، وبعد أن أنهى دراسته فيها بنجاح، ازداد طموحه فسافر سنة 1962 إلى الولايات المتحدة حيث حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة پرينستون وكانت الأطروحة التي أعدها عن حروب الردة. عمل الكثير خلال دراسته في الولايات المتحدة من أجل تنظيم الطلاب والمدرسين العرب في الجامعات الأمريكية وتوحيد جهودهم لكسب الأنصار للقضية الفلسطينية بواسطة نشر الحقائق التاريخية للجمهور الأميركي عن نضال الشعب الفلسطيني، وكان من بين الذين استجابوا لدعوته الأستاذان الجامعيان هشام شرابي وإدوارد سعيد.
التحق بجامعة جورجتاون اليسوعية في واشنطن مع نهاية صيف 1967 كأستاذ مساعد وخلال تلك الفترة توطدت علاقته مع الأكاديميين العرب وكثف من نشاطه الإعلامي بالتعاون الوثيق مع صديقه الحميم هشام شرابي، الذي كان سبقه في الانضمام لحركة فتح، وقد أصيب بخيبة أمل عندما لاحظ أن القيادات الفلسطينية أخذت تجنح إلى الانكفاء لتجعل من القضية الفلسطينية شأنا فلسطينيا محضا، مما أثار استياء الياس ورفاقه الذين رأوا أن قضية فلسطين هي قضية عربية محض، بل قضية إنسانية يجب أن يتجند لها القوميون العرب وحلفاؤهم من اليساريين في جميع أنحاء العالم، ولم تَرُق له محاولة القيادات الفلسطينية إملاء إرادتها على العاملين في الميدان أمثاله وفي ذلك يقول: «لقد اعتمدنا «المركزية الديمقراطية» في عملنا لكن سرعان ما اتضح لنا أن القيادة تفضل المركزية على الديمقراطية». وعندما لم يرضخ لإملاءات القيادت قام محمود عباس، مفوض التعبئة والتنظيم في ذلك الوقت بتجميد عضويته لمدة سنتين، وقد أخفى القرار عن بعض أعضاء القيادة في المركز لأمر في نفسه. زار قريته معليا لآخر مرة سنة 1968 بعد زواجه من الفتاة ڤيكي التي التقى بها في جامعة برنستون، حيث رأى والده المريض لآخر مرة، وكانت تلك المرة الأخيرة أيضا، التي رأى فيها أمّه وأخته زكية فقد توفوا جميعا في غيابه. في سنة 1970 بدأ العمل كأستاذ مساعد لتاريخ الشرق الأوسط في جامعة ميريلاند، كما زار عدة دول عربية خلال الأعوام الثلاثة التي سبقت انتقاله إلى بيروت في خضم حرب تشرين مضحيا بزواجه وبمستقبل جامعي واعد.
في بيروت التقى بالعديد من قيادات الفصائل الفلسطينية من القمة إلى القاعدة وترسخ لديه الانطباع أن عرفات يسعى إلى الالتحاق بركب السادات سعيا وراء التسوية، لكنه اعتقد أن بوسعه إقناع القيادة بعدم جدوى مثل هذا الخيار الذي لا طائل تحته.
وفي جلسة له مع عرفات ضمت نبيل شعث وهاني الحسن بعد حرب تشرين سأله الياس: «إلى أي معسكر ستنحاز الثورة بعد الحرب، هل ستستمر في نهج التحرير أم ستلتحق بركب التحريك» أغضب السؤال عرفات ولكنه شدد من عزم الياس على مقاومة سياسة رأى أنها مجرد عبث بالقضية الفلسطينية، وفي ذلك يقول: «لقد وضعتني تلك الجلسة على سكة الخلاف والعداء لنهج عرفات، الأمر الذي انعكس حسما لقراري بالبقاء في بيروت، ولو فقط من أجل التصدي لهذا النهج المنحرف» عمل منذ انتقاله إلى بيروت في «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» كباحث في «قسم الدراسات الإسرائيلية» كما عمل في الوقت ذاته في «مركز التخطيط الفلسطيني» حيث كان له نشاط زاخر في العمل السياسي والميداني وإدارة قسم الأبحاث في المؤسسة، كما ألقى العديد من المحاضرات في محافل عربية ودولية وجامعية، كان من خلالها يحاول أن يُفَنِّدَ مَزاعم المرَوِّجين لفكرة التسوية والمصالحة مع إسرائيل وعن ذلك يقول: «في المؤسسة ركزت اهتمامي على محورين: الواحد، تطوير عمل قسم الدراسات الإسرائيلية والارتقاء به نحو صياغة وعي علمي لطبيعة المشروع الصهيوني، ونشره ليشكل أساساً لثقافة سياسية قومية حول الصراع الدائر في المنطقة، والآخر، تطوير وعيي الذاتي لذلك المشروع من منطلق أن فاقد الشيء لا يعطيه، وبناءاً عليه جهدت في تعميق فهمي لهذا المشروع بالوسائل المختلفة، بهدف بلورة وعي ذاتي شمولي له، واستقر فهمي العام على أنه في الجوهر «ثكنة استيطانية» تم إنشاؤها لتكون مركزا إقليميا مضادا لحركة التحرر العربية يهدف إلى عرقلة تقدم شعوب هذه المنطقة نحو أهدافها التاريخية في الاستقلال والوحدة والتقدم الاجتماعي، وهذا الدور «الوظيفي» هو مبرر قيام الكَيان الصهيوني واستمرار وجوده، وهذا يستوجب قاعدة آمنة له في فلسطين عبر تهويدها بالاستيطان ونفي الطابع التاريخي العربي لها، ولن يتمكن هذا الاستيطان من أداء دوره الوظيفي وإقامة قاعدته الآمنة دون علاقة مُمَيَّزَة مع المركز الإمبريالي الذي هو الولايات المتحدة الأمريكية في هذه المرحلة التاريخية، وهكذا ركّزت اهتمامي على تعميق هذا المفهوم لطبيعة المشروع الصهيوني وصياغة مقولاته. كان مديرا بارعا ومتفانيا، يعمل الساعات الطوال دون كلل أو ملل، ويُعدي من حوله بحُمّى نشاطه الزاخر ومواظبته ودقته في العمل، وكان من نتيجة ذلك الجهد المتفاني العديد من الكتب والدراسات والترجمات والتوثيق التي صدرت عن المؤسسة وكان باكورتها ترجمة كتاب «التقصير»، («هَمَحدال» بالعبرية)،الذي ألفه مجموعة من المراسلين الإسرائيليين بعد حرب تشرين 1973 وقد لاقى الكتاب رواجا كبيرا فور إصداره. نتيجة لذلك الجهد الدؤوب كتبت إحدى الصحف العبرية غداة غزو لبنان في صيف سنة 1982 واستيلاء الجيش الإسرائيلي على وثائق المؤسسة: «كل من يريد أن يدرس تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، لا بد له من الرجوع إلى منشورات مؤسسة الدراسات الفلسطينية» عارض الانسحاب من بيروت إثر الغزو الإسرائيلي للبنان في صيف سنة 1982 وانشق عن حركة فتح سنة 1983 مع بعض المناضلين الذين لم ترق لهم أساليب اتخاذ القرارات في المنظمة. اعتزل العمل السياسي سنة 1993 وتفرغ للكتابة وقد نشر العديد من المؤلفات والدراسات، منها، على سبيل المثال لا الحصر: «إسرائيل في خمسين عاما»، الذي كتبه إثر مرور خمسة عقود على قيام إسرائيل، ويتكوّن من ثلاثة أجزاء يربو مجموع صفحاتها على ألف وسبعمائة صفحة، وهو سفر نفيس في عمقه وشموله، لا غنى عنه للقارئ والدارس الذي ينشد المعرفة الدقيقة لتاريخ إسرائيل في العقود الخمسة الأولى لقيامها. موجز تاريخ فلسطين السياسي، ويعتبر أفضل ما كتب عن تاريخ فلسطين. العلاقة بين الثكنة والمركز، وهو بحث شامل عن العلاقة العضوية بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد نشر كتابان عن سيرته: الأول سنة 1994 بعنوان «رحلة في الرحيل» والآخر «مرثية الصفاء» منذ أربع سنوات، والعديد من الكتب الأخرى، وكلها تمتاز برشاقة الأسلوب وسعة الاطلاع وعمق التحليل ووضوح المعنى. سيرة حياته تبدو وكأنها مأساة إغريقية بكل أبعادها وفصولها. لَبَّى نداء الوطن الذي فَقَدَه دون ذنب جناه، وراح يبذل كل ما في وسعه لاستعادته، ضحى بمستقبل جامعي واعد وضحى بزواجه، كما ضحَّى بفرصة الحصول على جواز سفر أميركي فعاش بدون جواز سفر، ثم عاد وتزوج مرة أخرى من الفتاة الفلسطينية ياسمين جورج خوري وأنجب منها ابنتان: هند ونور ولكن القدر اختطف منه زوجته وهي في ريعان شبابها عندما كانت تتلقى العلاج في الأردن، ولم يستطع حضور مراسم الدفن لاستبقائه على الحدود الأردنية - السورية مدة طويلة. فكان الأب والأم لابنتيه حتى شَقَّت كل واحدة منهما طريقها بنجاح، رغم ضيق ذات اليد، بينما كان بعض «رفاق النضال» يرتعون في النعيم المقيم الذي أغدقه عليهم «نضالهم» من أجل فلسطين في الفنادق الفخمة والقصور المقبَّبَة. غير أن القدر أبى إلا أن يتجرع الياس شوفاني كأس المُرِّ حتى الثُّمالَة فمات في دمشق وحيدا، بعد أن مر ما يقرب من عامين لم ير فيهما وجها لابنتيه، وكان قد اختار العيش في دمشق لقلة تكاليف العيش فيها، وظل حتى اللحظة الأخيرة شامخا جبارا يكتب وينشر لكي تطَّلع الأجيال الناشئة على الحقيقة، كما قال لي ذات مرة، كل ذلك دون أن تصدر منه كلمة شكوى واحدة، وقد صَدَّرَ كتابه «مرثية الصفاء» بهذه الكلمات:

إهداء، إلى ابنتيّ، هند ونور، ما وُرِّثتُ وطنا حرا لأورثكما إياه، وما لمت جَدَّكُما «والدي»، على ضياع الوطن، أملي ألّا تحمِّلاني مسؤولية الإخفاق في تحريره، لقد حاولت... وهذه قصتي.

رحمة الله عليك يا أبا هند، استراح قلبك الكبير بعد طول المسير، بعد أن تركت لنا ميراثا لا يفنى من ثمرات فكرك النّيِّر، وتركت لوعة في القلب لن يخفف منها تعاقب الأيام والليالي. كنت وستبقى مدرسة في الوطنية الحقة، وفي التشبث بالقيم والمبادىء السامية، والأخلاق الكريمة. نَعِدُك وعدا صادقا ونعاهدك عهدا لا نكث فيه، بأننا سنبقى دائما وأبدا، نستظل بذكراك في الصيف ونتدفأ بها في الشتاء، وأن نظل نقرأ وننشر ما كتبت ونَرْوي سيرتك العطرة في كل زمان ومكان.

عصام زكي عراف معليا، الجليل الغربي في الأول من شباط لسنة 2013