Translation

Exchange Rates

يونيو 14, 2022


דולר ארה"ב 3.446 0.17%
אירו 3.594 -0.13%
דינר ירדני 4.860 0.17%
ליש"ט 4.172 -0.51%
פרנק שוויצרי 3.466 0.12%
100 ין יפני 2.567 0.40%

Data courtesy of Bank of Israes

من ســيرتـــي الذاتـــيـــة:

بروفسور فاروق مواسي-شاعر وكاتب, 20/8/2013

عدت قبل يومين من ألمانيا من جولة سياحية، وأختزن طبعًا ذكريات جميلة ومناظر خلابة، لكني والحق عدت إلى ما كتبته في أعقاب رحلتي الأولى، فوجدت أن الوصف والسرد والذكريات فيها ما يهم قراء السيرة، وخاصة أولئك الذين يتابعون سيرتي. أرجو أن تحظى انطباعاتي برضاكم، فأنا زرت ألمانيا لا أقل من عشر مرات، ولكن النكهة الأولى والتجربة الأولى تظل لها خصوصيتها، فاصحبوني ولن تندموا!

من كتابي: "أقواس من سيرتي الذاتية"، ط2، طولكرم: مطبعة ابن خلدون – 2011( ص 290- 296) .............................................................

الرحلة الأولى للخارج والسفر بالطائرة 23/9- 5/10- 1977

بعض الرهبة وارتقاب المجهول إذ كنت أمتطي الطائرة إلى سويسرا، فإلى المانيا الغربية بدعوة من نقابة المعلمين الألمان. ما إن تحلق الطائرة حتى أشعر بعظمة الإنسان، مركب يمخر الجو، يتسع للمئات، وفيه مئات حقائبهم، تعلو الطائرة تدريجيًا، وما تلبث أن تسرع مئات الكيلومترات في الساعة، ونحو اثني عشر كيلو مترًا في أجواز الفضاء. لا أصدق! ما أكثر الظواهر المألوفة التي إن فكرنا فيها تملكنا العجب العجاب، مهما كان الوصف العلمي لها مقنعًا. يتجلى البحر في أدنى الأرض. سفينة هناك تبدو وكأنها السفينة التي يصنعها الأطفال من الورق، وأنت فوق الغيم. كتل غيمية بيضاء هنا، وسوداء هناك. أثينا متسعة يتداخل فيها البحر، وكأنه يعابثها. جبال الألب على قممها بياض هو الثلج، فترغم الطائرةَ على الإحساس بوجودها، فتقع الطائرة في مطبات هوائيـة، وتظل تشق العباب، والمضيفة تهيئ لنا أسباب الراحة من طعام وشراب. تمضي أربع ساعات فإذا بالربان يعلن:"أنت على مقربة من زوريخ، شد الحزام! درجة الحرارة ثلاث درجات مئوية". تسمع ذلك فلا تصدق، هكذا بسرعة من صيف قائظ في بلدي إلى برد قارس؟؟!! في سويسرة أول ما يطالعك ويبش بوجهك الأزهار –أزهار في واجهات البيوت، في الحدائق، على جانب الطريق. في كل سبيل وفي كل بقعة نظافة، ذوق، جمال، بيوت لها طابعها الأوربي، جنات تجري من تحتها الأنهار. بعد طواف في زوريخ أقلتنا طائرة أخرى إلى ميونيخ، وتظل الطبيعة تنفح بسحرها، وتشي بعطرها. وصلت ميونيخ في يوم احتفالات المدينة في (أوكتوبر فيست)، حيث المهرجانات، الأضواء المتوهجة الملونة، حركة، إثارة، بشر لا يعدون ولا يحصون، أسواق، معارض، أزياء بألوان متعددة، مشارب الجعة بالساقيات السمينات اللواتي يحملن الكؤوس الضخمة، تحمل الواحدة كأسين أو أكثر في يدها الواحدة. يندمجون في لحن ألماني، يترنحون وهم في ثملهم، يضحكون بقهقهات تتردد وتتصادى. قيل لي إن هتلر ظهر أولاً في هذه الساحات، وخطب أمام الجمهور خطبه الأولى الحماسية (في اليوم التالي أرشدوني إلى البيت الذي ولد فيه في ميونيخ أو مينشن كما يسمونها). تبين لي أنه شعب طرب وشرب وحب ونشوة وأغنية وجمال، لكنه في النشاط والعمل عجيب، ومثير. شعب أنجب عظماء في كل فن وفي كل مجال: كانت وهيجل وبلوغ وماركس في الفلسفة، هاينه وشيلر وغيته ونيتشه في الشعر، باخ في الموسيقا، وإينشتاين في الرياضة، وفي التاريخ قرأنا عن بسمارك ومارتن لوثر. في صباح اليوم التالي رأينا بالمقابل أفرانًا لحرق البشرية كانت في بدايتها معدة لكل معارض سياسي، ثم انطلقت إلى عنصرية محضة ضد شعوب مختلفة. يتساءل أولو الألباب: شعب عظيم وعبقرية فذة أنى لها أن تحرم الناس حيواتهم؟ أن تعمم أحكامًا؟ أو ليس التعميم مزلقًا لا يقع فيه إلا كل جاهل؟ كيف لهذه العقلية الجبارة في الطب أن تجري تجاربها الكهربائية على أدمغة البشر؟ أنت في حيرة من أمرك، فتسأل، وتسأل وأنت دهش، وإذا بالشباب يتنصلون من تبعة ما جرى، والكبار يؤكدون أن هذا مغالى فيه، وبعضهم يؤكد ويشمئز، والآخر يهرب ويتناسى. زرنا قرية الألعاب الأولمبية في ميونيخ، وقصوا لنا حكاية الرياضيين الذين دفعوا الثمن. تجولنا في قصور شليسهايم التي بناها أحد ملوك بافاريا، وثمة أعمدة ضخمة، تماثيل رخامية أنى نظرت، وهناك تمثال لشاعر، وآخر لموسيقيّ أو لملك، أو لحيوان. النوافير ينبثق منها الماء بأشكال فنية وضوئية، فترى هنا امرأة عارية تحمل إبريقين وتصب الماء يمنة ويسرة، وترى هناك نافورة أخرى بشكل هندسي عجيب يضخ الماء صعودًا وهبوطًا. زرنا أكثر من قصر، كان أبرزها قصر جيمسي في"جزيرة الرجال"، وثَم شموع وبنايات مطلية بالذهب، وأعمدة وغرف من فوقها غرف، لا تملك إزاءها إلا أن تهز رأسك إعجابًا، وإعجابًا آخر بهذه الطاقات البشرية التي استُــنفدِت. في قصر آخر في مدينة مانهايم أشار المرشد إلى مجلس كان يقعد فيه فولتير ليعلم فيه أبناء الملك، كما يعلم الألمانيين الراغبين أصول المسرح الفرنسي. في زياراتنا لفلدر شتات وأوفن شتات كنا في مدارس ابتدائية وصناعية، وبدا لي نشاط المعلمين في أبهى صوره، كما لاحظت نشاط الطلاب وجدهم، فهذا الصف الخامس مثلاً ألفيناه في الحصة يصنع آلة تصوير، فيضاء لي ضوء في فكري، فأقول لنفسي: أرأيت لماذا تتفوق الشعوب الأورو أمريكية واليابان؟ في إحدى المدارس أجروا لنا حفل استقبال رسمي، بدأته الجوقة بأغان للسلام، أنشده الطلاب بأكثر من لغة. عندما سمعت كلمة مفتش المدرسة كورت كلاين كان لي مأخذ على موقفه السياسي غير الموضوعي، ولكني عندما التقيته منفردًا، اعترف لي أن حديثه لا يعبر عن رأيه تمامًا، وأنه قال ما قال لمقتضى الحال. قلت: يجب ألا يتعجل المرء باتخاذ موقف، فلعل النقاش يؤدي إلى تفاهم تام. تعرفت إلى المفتش، فإذا به مؤلف لعدد من الكتب الأدبية أهداني منها كتابه بالألمانية –شخص عرف الطريق. من هذا الأديب إلى أديب معروف هو الشاعر والروائي والنحات والرسام جنتر جراس. ولد جنتر سنة 1927 في مدينة دانتسك المشهورة في تاريخ الحرب العالمية. ظهرت أول رواية له سنة 1959 - الطبل الصغير-، فغدا يمثل جيلاً ألمانيًا جديدًا –جيل ما بعد الحرب-. يكتب جراس بأسلوب بالغ الخيال، ويصف حياة التشرد والبؤس، وفي كتاباته حماسة وحيوية، وتجارب شخصية. تظهر أعماله الدرامية متأثرة بأدب اللامعقول من أدب أونسكو وبيكيت. لا أدري لماذا تخيلت قبل سفري أنني سألتقي هذا الأديب. في مدينة مانهايم حيث كنا نتجول أمام واجهات الحوانيت الأخاذة التي فيها ما تشتهي الأنفس، وبينما كنت أقرأ الأسعار وأوازن بين سعرها هنا وبين سعرها في بلادنا كانت صورة الشاعر تطالعنا في واجهة مكتبة ضخمة، وتحت الصورة إعلان أن الشاعر سيقرأ غدًا في الثانية ظهرًا في حفل توزيع كتاب جديد له. عندما حضرت في اليوم التالي كنت أستمع إلى الشاعر الذي وقف على منصة، ومن حوله جمهور حاشد من أجيال مختلفة –فتيات معجبات جذلات بعيونهن الزرقاء، رجال أصحاء يحنون رؤوسهم وهم يتلقفون كلماته، وعجائز وخط الشيب شعرهن يهززن رؤوسهن صعودًا هبوطًا. كنت أصغي إلى ألمانيته الصعبة المركبة، أفهم جملة، ولا أدري ماذا قال في جمل أخرى فصرت أتابع إيقاع شعره أكثر مما أفهم المعنى. لما فرغ من القراءة كانت أرتال المشترين تقف بالدور لتشتري ديوانه موقّعًا عليه بخط يده. كان يحمل بيده قدح نبيذ، واتخذ له ركنًا ليستقبل قراءه. سعدت جدًا لهذا الاهتمام البالغ بالشعر في بلد تسوده المادية والصناعة. الصف طويل، والشاعر يوقع، وأنا أنتظر مخاطبته. لم أتحلَّ بالصبر، بل أجزت لنفس أن أتجاوز النظام، فأتقدم إليه معرّفًا بنفسي. رحب بي، ثم طلب بطاقة الزيارة، وقدم لي بطاقته، ووعدني بزيارة لدى قدومه إلى البلاد، فهو يعرفها جيدًا بعد أن تردد عليها في أكثر من دعوة. ألقيت نظرة ثانية على المكتبة الضخمة الأنيقة المرتبة الجميلة، فأيقنت أن ألمانيا هو شعب الكتاب في أيامنا، فمنذ أن طلع غوتمبرغ في القرن الخامس عشر على العالم بالمطبعة وهم يترجمون ويطبعون وينشرون.(ملاحظة: في زيارة أخرى لاحقة لألمانيا زرت المطبعة الأولى في مدينة ماينز). أما الناحية الفنية فإنك تجد في كل مدينة مسرحًا، وبعضها أسس في القرون الوسطى، ونجد كذلك المهرجانات الموسيقية الكثيرة في الشوارع والميادين، تستمع إلى موسيقا باخ وموتسارت وبيتهوفن - موسيقا شعت بأنغامها من ألمانيا، لتطرب العالم الذواقة. ففي مدينة بوسبادن مثلاً يقام في كل أيار مهرجان عالمي موسيقي. أجمل ما رأيت في مدينة فرايبورغ أن كل حي وحي في مركز المدينة تعزف فيه الجوقات، وتشاهد الرقصات الفولكلورية، والجمهور حاشد من حول كل مشهد، يدفع بنقوده أمامهم تشجيعًا لهم. الأدب والفن يتساوقان مع جمال الطبيعة بخضرتها الباهرة، ومع أنهار الراين والنيكر والماين. غابات، وغابات وكروم للنبيذ الذي تتباهى بصناعته أكثر من مدينة. في الغابة السوداء كانت المجموعة تسير ليلاً في سبل ملتوية بين أشجار كثيفة. الظلام دامس، وخرير الماء يصل إلى مسامعك، وكأنه يرحب بهؤلاء الذين وفدوا من الشرق. في كل مرة يتبدل قائد المجموعة، ولما طلب مني أن أكون رائد المجموعة تهيبت، لكنهم طمأنوني أنني لن أقع في هوة، و لن أجد خطرًا من حيوان، ولا أدري كيف يؤكدون ذلك، ولماذا صدقتهم. ما أجمل الضياع في الغابة الهائلة! ولكن ما أشد وحشة المكان!

قضيت أسبوعين ممتعين في ضيافة كريمة، نختلف فيها من مكان جميل إلى مكان أجمل، فيزداد إعجابنا بالذوق العام وبالنظافة والنظام، وحب المساعدة والاجتهاد، بالصناعات الضخمة، بالاعتزاز باللغة الألمانية. سألت بعض الألمان مستفزًا: كيف تنظرون إلى تقسيم ألمانيا وهي خاضعة تحت حكم هذا أو ذاك؟ كانوا يتهربون من الإجابة ويقولون: نحن مع الوحدة الأوربية وهي شبه قائمة بين دول السوق، ومن يدري فلعل ذلك يكون مقدمة لوحدة إنسانية شاملة. أقلتني الطائرة عائدًا إلى أرض الوطن، وقلت لنفسي: لا بد من زيارات أخرى! فقد استمتعت!