Translation

Exchange Rates

يونيو 14, 2022


דולר ארה"ב 3.446 0.17%
אירו 3.594 -0.13%
דינר ירדני 4.860 0.17%
ליש"ט 4.172 -0.51%
פרנק שוויצרי 3.466 0.12%
100 ין יפני 2.567 0.40%

Data courtesy of Bank of Israes

السياسـة بين الجُمعـتين

هيئة التحرير, 20/4/2011

الحمدلله وبعد،، مررنا في السعودية هذه الأيام بجولتين صاخبتين؛ جولة الجدل الذي احتدم حول المظاهرات في الداخل السعودي، ثم خبا بعد جمعة 11مارس(6ربيع الثاني)، وجولة الجدل الذي احتدم حول الأوامر الملكية الجديدة التي أُعلنت في جمعة 18مارس(13ربيع الثاني)، في ظني أن هاتان الجولتان الساخنتان كشفتا للمراقب أجزاءً معتمةً من الخريطة السياسية السعودية، الواقع أنه ليس لدي فكرة إضافية على ماطرحت كافة الأصوات، وليس لدي رؤية فقهية أو فكرية حول ما جرى، وإنما أريد هاهنا فقط تسجيل بعض المشاهدات الشخصية للمشهد السياسي السعودي:

1-مولد الحلبتين السياسيتين: لاحظت خلال الفترة الأخيرة بداية تخلُّق وتشكٌّل حلبتين سياسيتين متناقضتين كلياً، الأولى حلبة الصحافة السعودية، والثانية حلبة الإعلام الاجتماعي(تويتر، وفيسبوك، الخ) وتلاحظ في حلبة الصحافة السعودية تتابع الكتّاب على المديح والإطراء للنظام السياسي السعودي، بل ويصل الأمر إلى المزايدة على (الولاء)للدولة السعودية، بينما في حلبة الإعلام الاجتماعي(تويتر ورفاقه)تلاحظ ميول الكتّاب السعوديين للنقد الجذري للنظام السياسي السعودي، بل ويتسرب بين بعض الكتّاب المزايدة على المعارضة والنقد، وامتداد الأعناق إلى الصوت الأجرأ.

باختصار شديد:الصحافة السعودية صارت بلاط موالاة، والإعلام الاجتماعي صار ثكنة معارضة.

وتجد التعليق على الأحداث تابع لهذا المزاج السياسي الذي صار-وياللطرافة-يشيع على أساس (قالب إعلامي)، سأعرض هاهنا نموذجاً يوضح اختلاف طريقة التعاطي بين هاتين الجبهتين، وليكن المثال هو بحث فضيلة الشيخ سعود الفنيسان الذي كان بعنوان(نظرات شرعية في وسائل التعبير العصرية)وهو بحث عام غير مربوط بحدث معين تعرض فيه الشيخ لجواز"المظاهرات السلمية"بأربعة شروط ذكرها، هذا البحث اعتبره المعلقون في الإعلام الاجتماعي(تويتر ورفاقه)فتحاً عظيماً ودلالةً على فقه الشيخ وتميزه، ولكن في المقابل اعتبر بعض كتاب الصحافة السعودية الشيخ الفنيسان محرض وحاقد وله صفقة مع قناة العالم الإيرانية! (صحيفة الجزيرة،13مارس).

يا ألله .. يا لحدة المفارقة!

والحقيقة أنني لاحظت-أيضاً- أن هذه التوزيع السياسي الجديد، أعني هذا الانقسام السياسي الحاد بين جبهتين إعلاميتين فاعلتين؛ وضع بعض الدعاة الإسلاميين في ورطة، فهم بين جبهتين؛ جبهة تزايد على الولاء، وجبهة تزايد على المعارضة، وهذا يعقِّد آفاق الخطاب ومحترزاته، دعني أروي لك بعض حلقات هذه الورطة: حين يتهجم بعض الصحفيين على الدعاة باتهامهم بأن خطابهم هو الذي خرّج الإرهابيين، وأنهم يغمغمون مواقفهم المؤيدة للعنف، وأنهم يشتركون مع الإرهابيين في المقدمات ويختلفون في النتائج، وأنهم يضخون مقدمات الخروج المسلح وينسحبون عن التصريح بنتائجها النهائية، وأنهم يروجون في دروسهم عدم شرعية الدولة، ونحو هذه الاسطوانة المعروفة، يحاول الدعاة ذباً عن أنفسهم أن يبينوا مواقفهم الموالية ويظهروا بلغة انتماء سياسي، رداً على هذا التشويه، فما إن يتكلم الداعية بمثل هذا الكلام الدفاعي إلا وتجد بعض كتّاب تويتر قد انتهوا من وجبة هاشتاجية غسلوا فيها هذا الشيخ المسكين وأنه متملق ومتزلف ومنخرط في صفقة ملوثة الخ!

فصار بعض المشايخ في حيص بيص!

وأما الشرائح التي تتواصل مع هذين المجالين، فقد لاحظت أن عامة الناس، وخصوصاً قطاع موظفي الحكومة؛ يستهلكون الخطاب الصحفي، ويتشكلون تدريجياً بمفاهيمه وتقييماته ومعاييره الضمنية.بينما الإعلام الاجتماعي(تويتر ورفاقه)فإنني لاحظت شباب الداخل الإسلامي أكثر اتصالاً به، وأكثر تساؤلاً عما يطرحه من أسئلة ورهانات.

أي الجبهتين الإعلاميتين تعبر عن نبض الشارع؟ من المتعارف عليه منذ زمن بعيد أن الصحافة الليبرالية/المتملقة لا تعبر عن اتجاه الشارع، وهذا المعطى صار اليوم مسلمةً وتجاوز مرحلة الاستنتاج والبرهنة، ولكن السؤال المطروح اليوم: هل يعبر الإعلام الاجتماعي(تويتر ورفاقه) عن هموم وتطلعات رجل الشارع في السعودية؟

الحقيقة أنني كنت أميل قبل فترة وجيزة إلى أن الإعلام الاجتماعي هو الذي يعكس توجهات ومطالب رجل الشارع في السعودية، لكن الأحداث الأخيرة هزت كثيراً هذه القناعة، وأعني بالضبط جولتي المظاهرات والأوامر الملكية، سأحاول هاهنا إيضاح ما أعنيه: ففي جولة المظاهرات نشط كثير من كتّاب تويتر في التعبئة للمظاهرات،(وخصوصاً في أواخر فبراير وأوائل شهر مارس)، وانتقدوا بشكل لاذع ومنظم أي شخصية دينية طرحت موقفاً سلبياً من المظاهرات، فكنت إذا قرأت أو نقل لي أحد المتابعين مايدور أشعر أن مئات الآلاف من السعوديين يجهزون راياتهم وشعاراتهم للبدء بالمسيرات، لا أعرف أحداً إلا وتوقع أن يحدث شئ ما نتيجة هذه التعبئة التويترية للمظاهرات، وكنت تلك الأيام إذا ذهبت لمجالس الناس وسمعت تعليقاتهم رأيتهم يتحدثون بشكل مختلف كلياً، رأيتهم يتحدثون بوجل ويرددون"الله يستر لايحوسونا، ما نبي مظاهرات ولا فوضى"ونحو هذه التعابير.

على أية حال.. مع كل هذه التعبئة التويترية للمظاهرات والدفاع عنها وسلخ من ينتقدها؛ إلا أنه لم تقع حادثة مظاهرات واحدة! هذا مؤشر أربك كثيراً قناعتي بكون الإعلام الاجتماعي يعكس فعلاً هموم وتطلعات ورهانات وتوجهات رجل الشارع في السعودية.

وأما المؤشر الآخر فهو أنه لما صدرت القرارات الملكية يوم الجمعة 13ربيع الثاني(18مارس)والمتضمنة دعم للإسكان والصحة ومراقبة الفساد وحلقات القرآن ومكاتب الدعوة الخ، فإن كتّاب المعارضة في تويتر ضخوا خطاباً نقدياً شديد النقمة، واعتبرو ما يجري مجرد إحباطات الخ، ولكن بالمقابل تجمع آلاف الشباب محتفلين بالقرارات في طريق التحلية بالرياض، وعلى امتداد الكورنيش في جدة والدمام والخبر.

وهذا مؤشر آخر عمّق من تصدع قناعتي بكون الإعلام الاجتماعي يعكس فعلاً مشاعر رجل الشارع في السعودية!

حسناً ..هاتان الواقعتان، أعني:التعبئة التويترية للمظاهرات في مقابل رفض الشارع لها، والهجوم التويتري على القرارات الملكية في مقابل احتفال الشارع بها؛ أعتقد أنهما يقوداننا إلى ضرورة مراجعة تصوراتنا وتقييماتنا لقدرة وسائل الإعلام الاجتماعي في التأثير السياسي في السعودية، وحين نعطيها حجمها الطبيعي والدقيق سنحسن استخدامها في الإصلاح السياسي بشكل أنجع، أما الأوهام والتقييمات الخاطئة فأعتقد أنها ربما تقودنا إلى مواقف وتشنجات خاطئة، أو تقودنا إلى إحباطات إصلاحية خطيرة بعد أن نرتطم بلحظة تساقط الأوهام.

علم اجتماع المعرفة الذي أسسه ماكس شيلر يمكن أن يزودنا بجهاز تفسيري جيد لفهم العالم الموهوم الذي يعيشه الشاب أحياناً نتيجة اختزال العالم فيما يراه من توازنات داخل مواقع الإعلام الاجتماعي التي يرتادها، بينما المعطيات الموضوعية في الخارج لا تعزز هذا المنظور، إن لم تكن تتناقض معه جوهرياً، وأعني بالضبط الأطروحة المشهورة لجورج غورفيتش"الأطر الاجتماعية للمعرفة" (ترجمها خليل خليل)، والتي درس فيها تفصيلياً علاقة البيئات بالوعي كالنقابات والعشائر والطبقات، الخ، حيث يمكن القول تأسيساً على ذلك أن وسائل الإعلام الاجتماعي ليست وسائل اتصال مجردة بقدر ماهي إناء تتشكل فيه منظومة معرفية لها محدداتها الخاصة، ومن هاهنا تبرز خطورة انهماك الشاب في هذه البيئات واستلهام"رؤية العالم" من توازناتها، بينما مكونات الواقع الخارجي تتصادم معها بنيوياً، وعلى أية حال .. يفترض التعامل مع علم اجتماعي المعرفة بحذر، نتيجة قيامه على بعض الفرضيات الخاطئة مثل المغالاة في النزعة التاريخانية وتحويل المعرفة إلى منتج جماعي وإلغاء دور الفرد، بما يقود إلى ما يمكن تسميته"جبرية ابستمولوجية".

حسناً ..المراد مما سبق تحرير الشاب من بناء تصوراته(رؤية العالم)بشكل خاطئ بناء على تقييمات مضللة لمدى عمق وسائل الإعلام الاجتماعي ومستوى عكسها للواقع السعودي.

2-منزلة السياسة في العقل السعودي: بدايةً دعنا نوضح ما لا يدخل في هذا السؤال، نحن هاهنا لا نتساءل عن "النخب المعنية بالتغيير السياسي"، ولا نتساءل عن السياسة كأخبار وأحداث، وإنما السؤال بشكل أدق: ما هي منزلة الحقوق السياسية(حق الانتخاب والترشح والتعبير والتجمع الخ) في هرم أولويات رجل الشارع في السعودية؟ في تقديري الشخصي أن هرم أولويات رجل الشارع في السعودية هما أمران: (المعيشي والديني)، وأما الحقوق السياسية فهي ثانوية، هذا الاستنتاج يتعزز بكثير من الشواهد لا يمكن هاهنا استعراضها، فقد لاحظت في أحداث كثيرة أنه إذا كان الأمر يمس المعيشي أو الديني؛ وجدت نوعاً من الاستفزاز والانزعاج الاجتماعي، بينما إذا كان الأمر يمس الحقوق السياسية فإن المجتمع السعودي يتعامل معها ببرود نوعاً ما.

دعنا نقيس منزلة الحقوق السياسية من خلال موقف رجل الشارع في السعودية من خلال نموذجين سياسيين مجاورين، وهما نموذج(الكويت)ونموذج(الإمارات)، نموذج الكويت ينفرد بإغداق الحقوق السياسية، فيقف النائب في مجلس الأمة ويتحدث كما يشاء عن أكبر رجل من الأسرة المالكة، وفيه محاسبة ومراقبة لا توجد في دول الجوار، بينما الإمارات تنفرد بالإغداق المعيشي، فتتوفر كل الاحتياجات المعيشية من تعليم وصحة وإسكان وفرص وظيفية بشكل مبالغ فيه، لكن لايتمتع الفرد الإماراتي بأي حقوق سياسية، فكل شئ بيد الأمير، ولايوجد محاسبة فوقه ولا انتخاب ولا غيره.

حسناً .. أي النموذجين أكثر جاذبية للفرد السعودي؟ هل النموذج السياسي الكويتي، أم النموذج المعيشي الإماراتي؟ الحقيقة أنه لا يخالف أي مراقب على أن رجل الشارع في السعودية منبهر بالوضع المعيشي الإماراتي ويعتبره حلم، بينما لا يمثل له الوضع السياسي الكويتي أي جاذبية.

حسناً.. إذا كان هذا الاستنتاج صحيحاً، وهو أن رجل الشارع في السعودية يعنيه بالدرجة الأولى(المعيشي والديني) ، بينما يقع الهم السياسي عنده في مرتبة ثانوية، إذا صحت هذه المقولة؛ فإن هذا يعني أن الرجل الذي هندس(القرارات الملكية الأخيرة)رجلٌ يتمتع بذكاء في إدارة المعركة مع المعارضين السعوديين.

التعبئة السياسية في العالم العربي لا تتغذى غالباً إلا بسخط اقتصادي وديني، فإذا حصل نوع من الرضا الاقتصادي والديني، فهذا يعني أن الهم السياسي فقد عكازتيه!وربما هذا ما يفسر الانفعال والتشنج الشديد ضد القرارات الملكية من بعض الإخوة الكرام المعنيين بالتغيير السياسي في الإعلام الاجتماعي، فأتوقع أنهم انفعلوا بشدة بسبب شعورهم أنهم فقدوا أهم منبعين لتغذية الهم السياسي.

على أية حال.. المهم هاهنا أن نفهم مكونات الوعي لدى رجل الشارع في السعودية، وأن نصل إلى أدق تفسير لأولوياته، طالما أننا لا نملك إحصائيات رسمية فاعلة، وما طرحته هاهنا هو مجرد رأي شخصي قابل للنقض بشواهد أكثر دلالة على الواقع، فليس الأمر هاهنا مجال(حق وباطل)، بل هو اجتهاد بشري في التفسير السياسي لا أكثر.

3-الاستجابات الخاطئة للقرارات الملكية: هذه القرارات الملكية الأخيرة ينبغي أن لا نتشنج في قراءتها وتقييمها، فالمسألة هاهنا لا تنتمي إلى مجال (الحق والباطل)الذي حسمه القرآن، بل هي جزء من الاجتهاد البشري الذي ينبغي أن تشيع في تداوله روح الأخوة والتواد والإعذار والتراحم.

هناك قراءات متعددة للقرارات الملكية، من أميز القراءات التي فيها تحليل ومناقشة للمعطيات بحسب ما طلعت عليه ثلاث قراءات(قراءة الشيخ سلطان العميري، وقراءة الشيخ عادل باناعمة، وكلاهما موجودتان في صفحتيهما الشخصية بالفيسبوك، وأما القراءة المتميزة الثالثة فهي للباحث الذكي مشاري الغامدي منشورة في مجموعة قاسم). هذه القراءات الثلاث هي أكثرها لفتاً للانتباه بحسب ما وقعت عليه، وقد يكون فاتني ما هو أهم.

وخلاصة هذه القراءات أنه: منا من سيرى أن هذه القرارات مفيدة للناس فيجب دعمها، ومنا من سيرى أن هذه القرارات ستئد التنمية السياسية فيجب تقزيمها؛ وكلا القراءتين محترمتين، وليس فيهما مشكلة، وإنما المشكلة في مستوى آخر من التعاطي مع هذه القرارات، وأعني تحديداً:

أن البعض لما لم تعجبه هذه القرارات أفرغ غضبه وشتائمه على العلماء والإسلاميين بالجملة، وهذا كان سلوكاً مشيناً لا يليق بباحث عن الإصلاح السياسي ونفع المجتمع، ليست المشكلة أن تفرح بهذه القرارات أو لا تفرح، هذه قضية تابعة لدائرة الاجتهاد البشري، وإنما المشكلة هي أنه -سواء فرحنا أم لم نفرح بهذه القرارات-فلا داعي لأن نستعمل ألفاظاً سوقية ننبز بها العلماء والإسلاميين.

والحقيقة أنني لاحظت أن البعض صوّر الخلاف على أنه: هل نفرح بهذه القرارات أم لا نفرح؟ والواقع أنه ليس هذا هو محل النزاع بتاتاً، بل محل النزاع هو أنه: هل يسوغ أن نشتم العلماء والإسلاميين إذا لم نفرح بهذه القرارات؟ هذا هو معقد النزاع، وهو الذي وقعت فيه ممارسات خاطئة.

ومن الاستجابات الخاطئة لهذه القرارات أن البعض صار يسميها(رشوة)للمجتمع، وهذه تسمية مؤلمة جداً، فماذا يعني أن نسمي هذه القرارات رشوة للمجتمع؟ هذا يعني أن المجتمع حين فرح بها فإنه يفرح بأموال قذرة، وأن النزاهة تقتضي أن يرفض المجتمع هذه القرارات، فأي إساءة للناس أن نتهمهم بأنهم حين فرحوا ببعض حقوقهم أنهم يأخذون رشوة! هذا تصرف غير لائق بتاتاً، ولا ينسجم مع نبل الإصلاح السياسي.

هذه الأموال التي صرفت للناس هي"بعض حقوقهم"فهل يليق أن يسمى من يأخذ بعض حقه أنه يأخذ"رشوة"؟

ومن الاستجابات الخاطئة التي سبقت، ثم تزامنت مع هذه القرارات؛ أن بعض الإخوة الكرام في مواقع التواصل الاجتماعي صاروا يستعملون"لغة استعلائية"على المجتمع، ويصورون أنفسهم بصورة"المخلص"، خذ مثلاً:تسمية المجتمع عبيد وأننا نحن الأحرار الذين نريد انتشالهم، هل هذا لائق؟ هل هذا ينسجم مع حب الناس وتقديرهم واحترام خياراتهم السياسية؟ ثم إن وصف الحرية والعبودية لايرتبط بوعي بقدر مايرتبط بواقع، بمعنى ليس الحر هو من وعى أهمية الحرية حتى وهو لم يمارسها واقعاً، وقد سبق أن نبّه على ذلك العروي في كتابه مفهوم الحرية حين قال (يظن البعض أن الوعي بضرورة الحرية دليل على وجود الحرية)[العروي، مفهوم الحرية، ص6].

ومن الاستجابات غير المريحة لهذه القرارات أن بعض الإسلاميين بدأ يضمر عنده شعور الانتماء لإخوانه الدعاة العاملين في الحقول الأخرى، فالعاملون في حلقات القرآن فرحوا بهذا القرار الذي فيه دعمهم، والعاملون في مكاتب الدعوة فرحوا بهذه القرارات التي فيها دعمهم، أليس من الجميل أن نفرح لفرح إخواننا؟ أليس من شعور الجسد الواحد أن نفرح لفرح طلاب التحفيظ؟ والله تعالى يقول(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)[التوبة،71].

ومن الاستجابات الخاطئة لهذه القرارات أن بعض المعنيين بالتغيير السياسي في مواقع التواصل الاجتماعي بدأ يشيع لغة تراجيدية حزينة ويبث الشعور بالاحباط وأن الاصلاح السياسي مات ونحو ذلك، وأعتقد أن هذا كان إجراءً خاطئاً، بل كان التصرف الخاطئ في فرصة ذهبية، كان المفترض أن نتبنى الشعور المعاكس كلياً، فنقول: الله أكبر، بدأت عجلات الإصلاح في الحركة، تم اليوم إنجاز عناصر مهمة في ملفات الإسكان والصحة والفساد والأنشطة الدعوية، وسنواصل إلى المزيد بإذن الله حتى نصل لدولة الحقوق والمؤسسات الخ. مثل هذه اللغة التفاؤلية ستجعل القرارات دفعة في سبيل الإصلاح، بدل أن تكون نكسة للإصلاح السياسي.وخصوصاً أن الإصلاح السياسي"فريضة كفائية"بحسب التكييف الفقهي، ولا يليق أن نشيع لغة محبطة عن فرض كفائي.

4-المكتسب الرمزي: من المتفق عليه اليوم أن القرارات الملكية تدور حول دعم ثلاث ملفات:المعيشي والدعوي والأمني.دعنا هاهنا نحلل الملف الدعوي، وبشكل خاص القرار الذي فرض حماية لهيئة كبار العلماء، ومنع الإساءة إليهم في الصحافة.

هل من المتوقع أن يتم تنفيذ هذا القرار؟ أنا شخصياً غير متفائل بالتنفيذ الفعلي لهذا القرار، وأعتقد أنه لن يجدّ أي جديد على الواقع، وستستمر الصحافة الليبرالية في التعريض بالعلماء،(وأسأل الله بمنه وكرمه أن يخيب ظني)إذن أين المكتسب في مثل هذا القرار؟

الحقيقة أن المكسب الحقيقي في القرارات الملكية التي دعمت الملف الدعوي(العلماء والتحفيظ ومكاتب الدعوة) هو(مكتسب رمزي)أكثر من كونه مكسب مادي ملموس، أعني أن هذه القرارات الملكية التي تضمن دعم الدعوي أوصلت رسالة نبذ معنوي للاتجاه الليبرالي بشكل عام.

ومن جانبٍ آخر فإنه قد تأذى العلماء والأنشطة الدعوية من تسلط الخطاب الليبرالي الصحفي، وربط الليبراليين بين الأنشطة الدعوية والعنف، والناس عموماً جفلت قليلاً من الأنشطة الدعوية وساورها الشك، بسبب تأثرها بموقف الدولة، فالناس على دين ملوكهم، ولذلك فإنه لما حملت هذه القرارات الملكية هذا الدعم الرمزي الواضح فإنه يعيد الثقة الأمنية للأنشطة الدعوية والتي شوهتها الصحافة الليبرالية، ويرفع عن الناس المخاوف والقلق، وتجعلهم يتعاملون مع الأنشطة الدعوية باطمئنان واسترخاء طالما أن الدولة دعمتها علناً.

فهذا(المكتسب الرمزي) هو الثمرة الحقيقية من هذه القرارات الملكية التي دعمت العلماء والأنشطة الدعوية.

ولكن تشكيل القرارات بهذا الشكل يثير إشكالية تحتاج إلى تفسير، نحن نعرف أن(الفريق الليبرالي)المتنفذ في الديوان لا يمكن بتاتاً أن يصوغ حزمة قرارات ملكية تدعم الدعوي والأمني؟ فكيف ياترى حدث هذا الأمر؟ الحقيقة ليس لدي أي معلومات حول الموضوع، لكنني أميل إلى أن ثمة تبدلات جوهرية في موازين النفوذ داخل الديوان، واضح جداً أن ثمة أيدي جديدة استطاعت النفاذ إلى درج الأختام!وقد قال تعالى (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)[البقرة،251]

استعرضنا سوياً جملة من المواقف حول هذه القرارات، لكن لم نحلل ما هو الموقف الأدق؟ وجهة نظري أن الموقف الأدق في التعامل مع القرارات السياسية بشكل عام، وهذه القرارات الملكية بشكل خاص؛ ليس هو منهج التملق والتزلف والتطبيل، ولا منهج التنطع والرفض والمكابرة، وإنما منهج(خذ وطالب)، فمرحباً بأي قرار ينفع الناس، لكن سنستمر في متابعة الملفات العالقة بكل وسائل الإصلاح المشروعة، ومنهج (خذ وطالب) منهج يحقق العدل القرآني الذي أمر الله به، ويحقق(الواقعية السياسية)التي هي أنجع الأساليب في الميدان .

5-فاتورة حنين: المشاهد أن كتّاب المعارضة في تويتر لم يدعم أيٌ منهم صراحة(مظاهرات حنين)، بل كانت أشبه بالمسكوت عنه في خطابهم قبل موعدها، ولكن ومع ذلك فإن كثيراً من المراقبين احتسب(إخفاقات حنين) في قائمة إخفاقات المطالبين بالتغيير السياسي!فلماذا ياترى وضعت فاتورة حنين في قائمة ديون دعاة التغيير السياسي مع أنهم لم يدعموها صراحةً؟

أعتقد أن ذلك عائدٌ إلى ثلاث عوامل، العامل الأول: أن دعاة التغيير السياسي في الإعلام الاجتماعي قاموا بحملة في الترويج للمظاهرات وإسقاط أي مخالف في ذلك في(أواخر فبراير وأوائل مارس) وهي الفترة التي سبقت مظاهرات حنين، والعامل الثاني: أن دعاة التغيير السياسي في(تويتر ورفاقه) لم يصرح أي منهم بوضوح بنقد ورفض مظاهرات حنين قبل موعدها، وإنما كل الرفض والنقد جاء بعد فشل حنين.العامل الثالث: أن دعاة التغيير السياسي بعد فشل حنين توقفوا كلياً عن مديح المظاهرات وإسقاط من ينتقدها.

وهذه الصورة الكلية جعلت المراقب الخارجي يفترض أن(مظاهرات حنين) كانت جزءاً من إخفاقات دعاة التغيير السياسي في تويتر، حتى لو صرحوا لاحقاً برفضها، لأنه رفضٌ جاء بعد فشلها، فالخطأ الجوهري الذي ارتكبه هؤلاء الكرام هو أنهم لم يصرحوا برفض حنين قبل وقوعها، سيما أنهم في المرحلة التي سبقتها يبجلون المظاهرات بشكل عام، وفي المرحلة التي تلتها توقفوا عن الحديث عن المظاهرات، فكان من الطبيعي أن توضع فاتورة حنين في صندوق بريدهم.

ورفض مظاهرات حنين ليس بالضرورة أن يكون نابعاً من التحريم الشرعي للمظاهرات، فالمظاهرات فيها خلاف فقهي ويحتاج إلى تحرير ليس هذا موضعه، وإنما رفض مظاهرات حنين لأنها مظاهرات مشبوهة لا يعرف من وراءها، ولأن المؤشرات تدل على أن رجل الشارع في السعودية لا يرغب في التغيير السياسي عن طريق المظاهرات، والواجب احترام إرادة الناس في وسائل التغيير السياسي والتي هي حق مشترك بين أفراد المجتمع، ولا يجوز إكراه الناس على وسائل لا يرضونها، فنحن وإياهم شركاء على هذه الأرض.

في يوم 12مارس قرأت على الشبكة تعليقاً لأحد المناضلين الشرفاء المعنيين بالتغيير السياسي، ممن يتحلى بالموضوعية، يقول فيه عن نفسه أنه خرج ليتظاهر يوم الجمعة في الدمام، وتتبع بعض الجوامع التي محل مظاهرات، وتفاجأ بأنه لم يجد أي شخص هناك، ثم تحدث عن إحباطاته، وطرح تفسيراً لموقف دعاة التغيير السياسي من(مظاهرات حنين) يرى فيه أن دعاة التغيير السياسي لم يصرحوا برفض مظاهرات حنين قبل وقوعها لأنهم ينتظرون، فإن نجحت ركبوها بزعم أنهم يدعمون المظاهرات بشكل عام، وإن أخفقت تبرأوا منها بزعم أنهم لم يدعموها صراحةً.

هذا التفسير الذي طرحه هذا المناضل الموضوعي هو في المطاف الأخير اتهام لدعاة التغيير السياسي بـ(الانتهازية)في تعاملهم مع مظاهرات حنين، فهل هذا التفسير دقيق؟ أميل شخصياً إلى أنه تفسير غير دقيق، وأعتقد أن العامل الذي دفع دعاة التغيير السياسي للصمت عن مظاهرات حنين قبل وقوعها ليس هو الانتهازية، وإنما عامل آخر مرتبط بما سبقت الإشارة إليه حول طبيعة المناخ السياسي في الإعلام الاجتماعي، وهو أنه مناخ انجرف في(المزايدة على المعارضة)، ونتيجةً لذلك فإن أي داعية من دعاة التغيير السياسي يخشى أن ينتقد حنين فيتعرض للتجريح والاتهام بالجمود السياسي والتواطؤ مع الاستبداد والعبودية ومناهضة الحرية الخ، هذا الجو التويتري المشحون بالمزايدة على المعارضة هو الذي حبس ألسنة كثير من عقلاء المعارضين عن أن يصرح بموقفه الناقد والرافض لمظاهرات حنين.

إذا كان هذا الاستنتاج الذي أطرحه هنا دقيقاً، أعني أن أجواء المزايدة على المعارضة في الإعلام الاجتماعي هي التي حالت بين دعاة التغيير السياسي وبين التصريح بموقفهم الرافض لمظاهرات حنين قبل وقوعها؛ فهذا يعني أننا يجب أن نبادر إلى إيقاف هذه المزايدات عند حدها، لأنها ستضر جوهرياً بالدعوات الإصلاحية والمشروعات الحقوقية.

المزايدة على المعارضة، والمزايدة على رفع سقف المطالبات؛ فيروس يدمر برامج الإصلاح التدريجي.

6-حول الخطين السلفيين السياسيين: منذ نهاية الخلافة الراشدة ونشوء أنظمة الجور في التاريخ الإسلامي ولد معها خطان سلفيان سياسيان، فأهل السنة يتفقون في عامة أبواب الدين كأركان الإيمان وأصول التلقي والاستدلال وكليات الشريعة والأخلاق وجوامع السياسة الشرعية ونحوها، إلا أنهم يختلفون في أسلوب التعامل مع النظم السياسية الجائرة، أو بشكل أدق:يختلفون في أسلوب الإصلاح السياسي في النظم السياسية المتغلبة، فهناك في هذه الإشكالية خطان، وهما(خط المداراة)، والثاني (خط الاستقلال).خط المداراة يسلك مسلك الإصلاح من داخل النظام، وخط الاستقلال يسلك مسلك الإصلاح بالنقد الخارجي.

فأما خط المداراة فمن نماذجه في التراث السلفي الإمام ابويوسف الذي تقلد أكبر منصب قضائي في الدولة العباسية، وكان الخليفة هارون الرشيد يجله ويقربه، وكان ابويوسف في المطاف الأخير جزءاً من النظام.

وأما خط الاستقلال فأشهر نموذج له سفيان الثوري، بل لا أعرف أشهر من هذا النموذج لهذا الخط؛ حيث كان يتهرب من الخليفة ويرفض التعاون معه، روى ابونعيم في الحلية أن (الخليفة المهدي بعث إلى سفيان الثوري، فلما دخل خلع الخليفة خاتمه فرمى به إليه، وقال يا أبا عبدالله هذا خاتمي فاعمل في هذه الامة بالكتاب والسنة، فأخذ سفيان الخاتم بيده وقال:تأذن في الكلام يا أمير المؤمنين على أني آمن؟ قال المهدي: نعم.قال سفيان: "لا تبعث إلي حتى آتيك، ولا تعطني شيئا حتى أسألك". فغضب المهدي من ذلك، وهم به، فقال له كاتبه :أليس قد أمّنته يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى.فلما خرج الثوري حف به أصحابه فقالوا ما منعك ياأبا عبد الله وقد أمرك أن تعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة؟ قال:فاستصغر الثوري عقولهم، ثم خرج هاربا الى البصرة)[الحلية، ابونعيم].

وروى ابونعيم أيضاً خبراً عن عصام بن يزيد يكشف وجهة نظر الثوري بشكل أدق، حيث يقول عصام بن يزيد (قلت لسفيان:لأي شيء تهرب من الرجل -أي المهدي-والرجل يقول لو جاء لخرجت معه إلى السوق فأمرنا ونهينا؟ فقال الثوري:ياناعس! حتى يعمل بما يعلم، فاذا عمل بما يعلم، لم يسعنا إلا أن نذهب فنعلمه ما لا يعلم)[الحلية، ابونعيم].

والحقيقة أن الأخبار العجيبة التي تعب في جمعها ابونعيم بالأسانيد وساقها في ترجمة سفيان الثوري في الحلية؛ مليئة بهذه المواقف التي تعكس خط الاستقلال في الإصلاح.

بل حتى إشكالية قبول الأعطيات والهبات من السلطان اختلف السلف فيها، فثمة من منعها وتحفظ فيها، ومنهم إمام أهل السنة الإمام أحمد، تغمده الله برضوانه، وثمة من قبلها وأجاز قبولها، وقد جمع أقوال المجيزين الإمام ابن أبي شيبة في كتابه المصنف في باب بعنوان(باب من رخص في جوائز الأمراء والعمال)، وروى فيه (21)أثراً، وممن ذكر أنهم قبلو جوائز الأمراء الحسن والحسين وابن عمر وابن عباس وعائشة وعكرمة وابراهيم النخعي وغيرهم.

والمراد من ذلك أنه في باب التعامل مع ولاة الجور والنظم السياسية المتغلبة نجد عند السلف خطين سياسيين، خط المداراة، وخط الاستقلال.

حسناً..دعنا ننتقل من التراث إلى واقعنا المحلي، الحقيقة أننا في واقعنا المحلي نجد المدرسة السلفية تشكل فيها هذا الخطان أيضاً، فيتفق السلفيون على أصول الدين في التوحيد والشرك، والسنة والبدعة، وأصول التلقي والاستدلال، والفضيلة، ووجوب العدل وحفظ حقوق الناس، الخ لكنهم يختلفون في أسلوب التعاطي مع الولاة، فهناك (خط المداراة)، وممن سلكه الإمام ابن باز وابن عثيمين وصالح الفوزان ونحوهم.ونجد هناك(خط الاستقلال)، وممن سلكه الشيخ عبدالرحمن الدوسري وحمود التويجري وابن قعود وحمود العقلا وعبدالرحمن البراك وسفر الحوالي ونحوهم.

حسناً..هل هناك مشكلة في هذا الاختلاف؟ لا، طبعاً، فهذه مسألة اجتهادية، ولا يجوز أن يشنع أصحاب مسلكٍ على أصحاب المسلك الآخر، الواجب فقط هو الاتفاق على (مقاصد الإصلاح)وهي الإيمان وأصول السنة والفضيلة وكليات الشريعة وحفظ حقوق الناس الخ، هذه المقاصد هي التي فيها الولاء والبراء، أما (وسائل الإصلاح)فيجب أن نكون في غاية الرحابة والتفهم والإعذار فيها.

الاختلاف في (مقاصد الإصلاح) هو"اختلاف تضاد" غير محمود، أما الاختلاف في (وسائل الإصلاح)فهو "اختلاف تنوع"محمود، ويثري الساحة الدعوية، ويملأ كافة الفراغات التي لو لم تملأ بالحق لملأها الباطل.

ومن المؤلم أنك تجد بعض الإخوة الكرام المتحمسين للتغيير السياسي يتشنج في(وسائل الإصلاح)فيتهم أصحاب مسلك المداراة بالتهم الخطيرة ويخوض في أعراضهم ولايتورع عن إطلاق أي عبارة سوقية عليهم، ومع أن هذا مؤلم إلا أنه لايعد شيئاً بالنسبة إلى شريحة أخرى من الشباب-هداهم الله-قلبوا الأمر رأساً على عقب، فتراهم في(مقاصد الإصلاح)التي هي معقد الولاء والبراء في غاية التميع فيهونون من قضايا تناقض أصول الشريعة، ولكنهم في(وسائل الإصلاح)تجدهم في غاية التوتر والانفعال وضيق العطن ورفض الاختلاف، وكم نتمنى من هؤلاء الإخوة أن يقلبوا الوضع فيكونوا حازمين في مقاصد الإصلاح، متسامحين في وسائل الإصلاح.

دعنا على ضوء التصور السابق نقرأ فتوى هيئة كبار العلماء الأخيرة في المظاهرات والبيانات، فنحن نعرف أن الهيئة أصدرت بياناً في1ربيع الثاني(6مارس) تحرم فيه المظاهرات والبيانات التي فيها تهويل، هذه الفتوى قوبلت في حلبة الصحافة السعودية(الموالية)بترحيب حار، وقوبلت في حلبة الإعلام الاجتماعي(المعارض)بتهجم قاسي.

الإخوة الكرام الذين تهجموا على فتوى هيئة كبار العلماء لاحظت أنهم يبدون اندهاشاً، ويعبرون بتعابير وكأنهم مستغربين مما جرى، وأن هذه سابقة ستؤدي إلى إسقاط الهيئة سقوطاً نهائياً، ونحو هذه التعابير.

حسناً.. ما تفسير هذا التصور ياترى؟ يبدو لي أن هؤلاء الإخوة لم يستوعبوا التاريخ السياسي السلفي، أو بمعنى آخر لم يتصوروا بشكل كافٍ وجود خطين قديمين في الفقه السلفي حيال التعامل مع النظم السياسية المتغلبة، خط المداراة وخط الاستقلال.

لنقترب أكثر من مكونات الفتوى، الفتوى تحمل أمران جوهريان(المظاهرات، والبيانات)، وموقف الهيئة من هاتين المسألتين لا جديد فيهما بتاتاً.

فأما تحريمهم للمظاهرات، فقد سبق أن حرمت الهيئة المظاهرات على عهد ابن باز وابن عثيمين ونحوهم، ومن ذلك مثلاً (فتوى اللجنة رقم19936). بل إن ابن باز نفسه نص على تحريم المظاهرات في غير موضع من كتبه، انظر مثلاً(فتاوى ابن باز 6/418، 7/344، 8/245، وغيرها)

وأما تحريم الهيئة للبيانات المتزامن مع صدور بيان (دولة الحقوق والمؤسسات)الذي قام بإعداده جمع من أهل العلم والدعوة، ثم وقعته كافة شرائح المجتمع، فهذا عين ما وقع حينما أصدر عدد من الدعاة أيام أزمة الخليج(مذكرة النصيحة)، فأصدرت هيئة كبار العلماء برئاسة الإمام ابن باز -رحمه الله-بياناً في(ربيع الأول/1413هـ)يردون فيه على المذكرة وينتقدون مثل هذه البيانات.

بل إنني لاحظت عدداً من المراقبين علق على العبارة التي جاءت في بيان هيئة كبار العلماء الأخير (1/4/1432هـ)حين قالت الهيئة (كما تحذر من الارتباطات الفكرية والحزبية المنحرفة)وافترضوا لها دلالات واعتبارات بعيدة، والحقيقة أن هذه العبارة هي مجرد نقل من بيان الهيئة القديم الذي كان على رأسه ابن باز عن مذكرة النصيحة حيث جاء فيه أيضاً (كما يحذر من انواع الارتباطات الفكريه المنحرفه)[ربيع الآخر،1413هـ]

وماذكره بيان الهيئة الأخير عن منهج النصيحة الشرعية، هو عين ماذكره بيان الهيئة القديم برئاسة ابن باز حين قال(والمجلس إذ يستنكر هذا العمل المتمثل في إعداد هذه المذكرة المسماة"مذكرة النصيحة"، ونشرها؛ يؤكد أن هذا العمل عمل مخالف لمنهج النصيحة الشرعية)[ربيع الآخر،1413هـ]

ما الغرض من هذه المقارنات التاريخية؟ الغرض هو توضيح الصورة الكلية، وعدم الاستغراق في حادثة فتوى الهيئة بمنع المظاهرات والبيانات، دون استيعاب للمسار التاريخي للعلماء الذين يتبنون خط المداراة، أريد فقط أن أضع الفتوى الأخيرة في الرف الصحيح داخل مكتبة خط المداراة.

حسناً..ماهي نتيجة هذا التصور؟ هذا التصور الكلي لموقف هيئة كبار العلماء من المظاهرات والبيانات يقودنا إلى التصرف الصحيح حيال هذه الفتوى، كان المفترض في الإخوة المعنيين بالتغيير السياسي أن لا يبذروا طاقاتهم النضالية في مهاجمة الهيئة، بل كان المفترض أن يقال:علماؤنا على العين والرأس، وهذا اجتهادهم، وهناك علماء آخرون لهم اجتهاد مختلف، والأهم أن تبقى قضيتنا التي نعمل من أجلها، وهي التنمية السياسية.

أعتقد أننا لو سلكنا مثل هذا المسلك لحافظنا على التركيز في المطالب الإصلاحية، ولم ننجرف إلى معارك جانبية تصطنع المزيد من الخصومات الداخلية، ويتفرق الجمع وتذهب الريح، وما وقع يؤكد ذلك، فقد انجفل كثير من الشباب السلفي يذب عن العلماء، ودخل الجميع في معركة جديدة، ونقص التركيز على المطالب الإصلاحية.

وثمة أمرٌ آخر في غاية الخطورة، وهو أن بعض الإخوة الكرام المعنيين بالتغيير السياسي في الإعلام الاجتماعي أطلقوا عبارات "قذف"في الذمة والأمانة تجاه هيئة كبار العلماء مجتمعين، وفي هؤلاء علماء أطبق كل من عاملهم على تقواهم وزهدهم وورعهم وصدقهم مثل الشيخ عبدالكريم الخضير والشيخ محمد المختار الشنقيطي والشيخ صالح الفوزان والشيخ صالح الحصين والشيخ يعقوب الباحسين والشيخ عبدالله المطلق ونحوهم من إخوانهم.

فهذا الأخ الذي طعن في ذمة هؤلاء وأمانتهم هل يعلم أنه سيأتي يوم القيامة وفي رقبته دين لأمثال الخضير والشنقيطي والحصين الخ يا أخي الكريم ضع بين عينيك قوله تعالى(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)[الصافات،24].

وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)[البخاري،13] ووالله يا أخي الكريم أنني أحب لك أن تنجوا في ذلك اليوم، كما أحب لنفسي ذلك.

7-المشاركة والانفراد: من الظواهر التي تستحق التعليق والتفسير أنني لاحظت في الدعاة الإسلاميين ظاهرة يمكن تسميتها(المشاركة المدنية، والانفراد الشرعي)، أعني أن الإسلاميين يشاركون غيرهم من التيارات في القضايا المدنية، وينفردون عنهم بقضايا شرعية، وهذه الظاهرة لها آثار سأحاول قراءتها هاهنا.

ففي القضايا المدنية أنتج الدعاة الإسلاميين مثلاً:مذكرة النصيحة(1412هـ) وبيان الغلاء وارتفاع الأسعار(1428هـ) ، ووثيقة الإصلاح(1426هـ)، والبيان التأكيدي لوثيقة الإصلاح(1432هـ)، وبيان الإفراج عن الموقوفين(1432هـ)، بالإضافة إلى مئات المقالات والخطب حول كارثة الأسهم، وكارثة سيول جدة، ونحو ذلك.

في هذه الأنشطة يطالب الإسلاميون بمطالب مدنية مشتركة مثل الاسكان والصحة والتعليم والبطالة والمال العام الخ وهذه القضايا لا ينفرد فيها الإسلاميون، بل يشاركهم فيها كل التيارات الفكرية الأخرى، حتى الليبراليون في الصحافة المتملقة كتبوا كثيراً عن أزمات قطاع الخدمات.

ولكن هناك قضايا أخرى ينفرد فيها الإسلاميون ولا يشاركهم فيها غيرهم، وهو الحديث عن كثير من مطالب القرآن، مثل:العبادات الكبرى كالتوكل واليقين والانقياد والاخلاص والصدق والتوبة، ومثل:الحديث عن أخلاق القرآن كبر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان للجار، ومثل تعزيز المفاهيم الكبرى كتحكيم الشريعة، والتوحيد والشرك، والسنة والبدعة، والفضيلة والرذيلة، ومثل: فقه العبادات الموسمية كتعليم الناس أحكام الصيام قبيل رمضان، وأحكام المناسك قبيل الحج، والعبادات الفاضلة الأخرى، ومثل مقاومة أعتى استبداد ثقافي معاصر، وهو التغريب، كالصراع مع التغريب التشريعي، والتغريب الأخلاقي، الخ.

في هذه الملفات لا أجد أحداً يتحدث عنها، وينتج المواد حولها؛ إلا الاسلاميين.

هذه الحالة، أعني(المشاركة المدنية، والانفراد الشرعي)تشكل مزية ومشكلة في ذات الوقت، فأما المزية فهي أن هذه الظاهرة منحت الإسلاميين فضيلة(التكامل)التي لم تستطع أن توفرها بقية التيارات الأخرى، فالإسلاميون يحاولون دوماً تغطية الدين والدنيا، وأما التيارات الأخرى فالذي ألاحظه أنها تكاد تقتصر على المطالب الدنيوية فقط.

وأما المشكلة فهي أن كون الإسلاميين في القضايا المدنية مشاركون لغيرهم من التيارات، وليسوا اللاعب الوحيد؛ يجعل جهودهم هذه غير مرئية للمراقب الخارجي، لأنها مغمورة في ميدان يساهم فيه الجميع، وبالتالي فالمراقب الخارجي ينسب الإسلاميين دوماً إلى ما انفردوا به، فترى كثيراً من الطيبين يقولون:الإسلاميين مشغولون في التغريب والاختلاط، وليس لهم دور في القضايا المدنية؟ ما سبب هذا التصور الخاطئ؟ سببه أن مشاركة الإسلاميين في القضايا المدنية ليست حكراً عليهم، بل يشاركون الناس فيها، ولذا لا تبدو لهم كهوية مميزة، بخلاف انفرادهم بالقضايا الشرعية فهو يجعل القدرة على إبصارهم في هذا الميدان أكثر.

إذا صح هذا التصور المطروح هاهنا، أعني ظاهرة(المشاركة المدنية، والانفراد الشرعي)، فهذا يؤدي بنا إلى الوعي باحترازات خطرة، وهي أنه مادامت هذه القضايا الشرعية التي سبقت الإشارة إليها لا يقوم بها إلا الإسلاميون، فهذا يعني أنهم لو تخلوا عنها لما وجد من يقوم بها، من المستبعد جداً أن يقوم الليبراليون مثلاً، أو غيرهم من التيارات الفكرية؛ بتزكية الناس بالعبادات الكبرى كاليقين والتوكل والانقياد والصدق والاخلاص والتوبة الخ، أو إعداد الدروس الشرعية في بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان للجيران، أو تربية التعلق بتحكيم الشريعة في نفوس النشء، إلخ وبالتالي فيجب أن يعي الإسلاميون أهمية الدور الشرعي الذي يقومون به.

أما كيف يصحح الإسلاميون التصورات الخاطئة لدى بعض الباحثين الصادقين، الذين يتصورون أن الإسلاميين لا دور لهم في التنمية؟ فالجواب ليس عبر التخلي عن القضايا الشرعية والمنافسة في القضايا المدنية، ولكن عبر إبراز الجهود المدنية الإسلامية وتوضيحها للباحثين.

حسناً.. أظن أنني أطلت كثيراً في حكاية هذه المشاهدات، ومن المفترض أن أتوقف هاهنا، وأتمنى أن تتاح فرصة قادمة للحديث عن مشاهدات سياسية أخرى في ظل هذه الأوضاع الملتهبة.

والله أعلم،، ابوعمر ربيع الثاني 1432هـ

منشور في موقع (رؤى فكرية)