Translation

Exchange Rates

יוני 14, 2022


דולר ארה"ב 3.446 0.17%
אירו 3.594 -0.13%
דינר ירדני 4.860 0.17%
ליש"ט 4.172 -0.51%
פרנק שוויצרי 3.466 0.12%
100 ין יפני 2.567 0.40%

Data courtesy of Bank of Israes

النّقد الّذي نريده-د. حبيب بولس

מערכת, 29/8/2011

استمرارا لما كتبه الرفيق محمد نفاع في عدد يوم الخميس 11-8-2011 في الاتحاد بخصوص النقد الادبي عندنا وتأسيسا عليه تأتي هذه الورقة. إنّ الأدب كائن حي ينمو ويتطوّر، يتأثّر بما حوله ويؤثّر فيه، والمتتبّع لحركتنا الأدبيّة المحليّة يستطيع أن يلمح تطوّر الأدب نثرا وشعرا، كما أنّه يلاحظ أنّ ثمّة فيضا أدبيّا تفرزه أقلام محليّة عديدة، فلا يملك القارئ والمتتبّع إلاّ أن يقف مشدوها أمام هذه الوفرة من الإنتاج؟ كما أنّه لا بدّ من أن يسأل نفسه: ما هو الجيّد في هذا الإنتاج؟ وما هو الرّديء؟

وهنا يأتي دور النّاقد الأدبي، ففي ظلّ غياب حركة نقديّة علميّة جادّة عندنا يختلط الغث بالسّمين ونفقد البوصلة الّتي بها نسترشد لنقف على حقيقة هذا الإنتاج الأدبي الوافر ولنعرف جيّده من رديئه، أصالته من زيفه.

لذلك تأتي هذه الورقة: فنحن طالما صببنا إهتماماتنا على الأدب المحلي من حيث تطوّره وتاريخه، ولكنّنا على ما أعتقد لم نتطرّق لموضوع النّقد الأدبي بشكل خاص ومكثّف.

ولأنّها المرّة الأولى الّتي يطرح فيها هذا الموضوع للبحث إرتأيت أن أتقدّم بهذه الورقة علّها تجيب عن مجمل الأسئلة الّتي يمكن أن تطرح . لا تعدم هذه الورقة العلميّة لأنّها تستمدّ ذلك من عدد من المصادر المعتمدة والأصول الجادّة في النّقد واتّجاهاته وأصوله فهي تطرح أدبيّاتها مرتكزة على هذه المصادر مفصّلة حينا وحينا موجزة متصرّفة في آخر وأمينة في أحيان كثيرة. كما أنّها والأمر كذلك لا تعدم الإستنتاج والرّؤية إذا لزم الأمر.

لماذا لا نملك حركة نقديّة جادّة اليوم؟ أي لماذا ما زلنا مقصّرين في مضمار النّقد الأدبي؟ هذه الفرضيّة لا تنفي ولا تنوي الإعلان عند عدم وجود نقد محلي، ولكنّها تقول إنّ هذا النّقد طفرات تلمع ثمّ تحتجب، لا تداوم كي تترسّخ أو أنّها تداوم ولكن على نفس الوتيرة وفي نفس العيوب.

قبل أن أجيب عن السّؤال المطروح وقبل أن أعرض للدّواء أجدني مضطرّا لتشخيص الدّاء. من هنا سأتعرّض لبعض الملامح النّقديّة عندنا بشكل عام.

إنّ الحقيقة الموضوعيّة تلزم أن نرى الجيّد والرّديء في نقدنا، وللحقيقة أقول: إنّ نقدنا يعاني من عيوب كثيرة سأجتهد في إيراد بعض منها على سبيل المثال لا الحصر مغفلا النّواحي الإيجابيّة عمدا، لأنّها إن وجدت فهي عند القليل القليل.

من هذه العيوب: 1. إطلاق الأحكام العامّة بصورة عشوائيّة دون فهم لها في كثير من الأحيان. 2. الإستعراض. إنّ أغلب ما يكتب عندنا من نقد يميل إلى الإستعراضيّة أكثر ممّا يميل إلى النّقد العلميّ. 3. المحاباة والتّزلّف، وأعني بذلك- نظرا لظروف حياتنا- الحكم على الأديب وإنتاجه من منطلق القرابة والصّداقة والإنتماء. 4. السّطحيّة. 5. الخوف أو الرّهبة والمقصود الخوف النّابع من عدم ثقة النّاقد بنفسه وبأحكامه وذلك لقلّة خبرته النّقديّة.

السّؤال الّذي يطرح نفسه الآن: طالما أنّ هذه العيوب قائمة في نقدنا فما السّبيل إلى علاجها؟

أوّلا أودّ أن أؤكّد أنّني لست الطّبيب ولا المنظر ولا أملك وصفية سحرية ولكنّني سأحاول الإجابة، وإجابتي قابلة للنّقاش حتما.

في البداية لا بدّ من تعريف للنّقد لنتعرّف إليه وإلى أهميّته في آن.

إنّ أبسط تعريف للنّقد الأدبي هو التّعريف الّذي قدّمه محمد مندور في كتابه (في الأدب والنّقد، ص10 وص 11) حيث يقول:

إنّ النّقد الأدبي في أدّق معانيه هو: فن دراسة الأساليب وتمييزها. وذلك على أن نفهم لفظة الأسلوب بمعناه الواسع، فليس المقصود بذلك طرق الأداء اللّغويّة فحسب، بل المقصود منحى الكاتب العام وطريقته في التّأليف والتّعبير والتّفكير والإحساس على السّواء، بحيث إذا قلنا إنّ لكلّ كاتب أسلوبه يكون معنى الأسلوب كلّ هذه العناصر الّتي ذكرناها.

وبناء عليه يصبح أساس النّقد الأدبي التّجربة الشّخصيّة، لذلك فكلّ نقد أدبي لا بدّ أن يبدأ بالتّأثّر وذلك لأننا لا نستغني عن الذّوق الشّخصي والتّجربة المباشرة لإدراك حقيقة ما إدراكا صحيحا. ولكن الذّوق- وسيلة الإدراك- ليس وسيلة للمعرفة، وذلك لأنّه ملك شخصيّ، بينما المعرفة ملك شائع. والملكة الّتي يستحيل بها الّذوق معرفة هي ملكة التّفكير. فبالفكر ندعم الذّوق وننقله من خاص إلى عام. وللتّفكير عدّة مصادر منها ما يرجع إلى أصول التّأليف في فرع من فروع الأدب، والمقياس في ذلك عادة نستمدّه من كبار الكتّاب الّذين حكم لهم الدّهر بالبقاء وأقرّت لهم الإنسانيّة بالسّبق، فكافّة القواعد الخاصّة بالتّأليف إنّما إستنبطها الكتّاب من مراجعة عيون المؤلّفات الخالدة.

إنّ النّقد عند مندور، إذن، تجربة شخصيّة وتأثر ذوقي شخصي ولكنّها جميعا كي تصح، عليها أن تكون مدعومة بالفكر، وهذا ما يؤكّده الدكتور أحمد كمال زكي في مقاله ( طبيعة العمل النّقدي) في كتابه (النّقد الأدبي الحديث،ص22-17).

ولكنّه حين يؤكّد ضرورة الفكر والعلم يحذّر من الإفراط في العلوم، خاصّة العلم اليقيني، حيث يقول: لا يمكن لإنسان واع أن يقول بعدم جدوى العلوم في النّقد، فنحن نحتاج في النّقد، إلى كلّ ضروب المعرفة عن السّلوك الإنساني ومّما هو ثابت لا شكّ فيه أنّ الأدب فن يعرض التّجارب الإنسانيّة الّتي يستمدّها من الحياة ليفسّر بها هذه الحياة، لذلك لا يمكن لنا أن نستعين بكلّ ما أحرزه العقل من تقدّم للكشف عن أبعاد هذا التّفسير،ذلك أنّ النّقد ينبغي أن ينظّم تجاربه المستمدّة من الأدب الخالق في ضوء النّتائج الّتي إستخلصها من العلوم الإجتماعيّة أو في ضوء ما يبلور التّجربة فقط، بحيث لا نعتمد كلّ مبادئ الفلسفة أو التّاريخ أو علم النّفس مثلا. ويخلص بعد أن يقدّم رأيه إلى القول عن النّقد المراد: إنّ النّقد الّذي نريده يطمح إلى معالجة الآثار الأدبيّة علاجا منظّما يكشف عن أفكارها وقيمها ويجيب عن شتّى أسئلة تدور حول الصّلة بين الأدب ومادّته الموروثة وبين أيدولوجيّات العصر وبين الأدب وحياة الفنّان وعلاقته بالمجتمع في ماضيه وحاضره على حدّ سواء.

ومن الواضح أنّ النّقد الحديث الّذي يساعد القارئ على فهم الأثر الأدبي وتذوّقه يهدف أوّلا وأساسا أن يفهم الأديب طبيعة عمله وتطوّره، ولذلك لا بدّ من أن يتسلّح النّاقد فوق أسلحة العلم أو قبلها بالذّوق والحساسيّة والذّكاء، وعلى هذا الأمر تلتقي معظم المصادر.

وحسب هذا الإعتبار يصبح النّقد سهلا وصعبا في آن، ترجع سهولته إلى أنّ في الإمكان تربية الذّوق النّقدي عند الجميع، أمّا صعوبته فترجع إلى أنّه، لم يكتب فيه سوى القادر على الكتابة كما يقول د. زكي.

وفي نهاية مقاله المذكور آنفا يقدّم د. زكي وصفة ناجحة للنّاقد الّذي يطمح أن يكون دقيقا وعلميّا وعميقا. وهذه الوصفة يذكر بعضا من عناصرها بإسهاب الدكتور محمد غنيمي هلال في كتابه ( النّقد الأدبي الحديث)، وكذلك الدكتور محمد النويهي في كتابه (ثقافة النّاقد الأدبي).

يقول: على النّاقد الأدبي أن يتسلّح بما يلي: 1. أن يفهم نظريّة الأدب من حيث طبيعته الخاصّة وعلاقته العامّة بالحياة. 2. أن يحيط بالتيّارات الفكريّة والنّواحي الفنيّة الّتي أسفرت عن تطبيق النّظريّة الأدبيّة، سواء منها ما يخص الأجناس الأدبيّة أو الصّياغة أو غاية الأدب بوصفه نشاطا يسهم في إزجاء الحلول لمشكلات الإنسان. 3. أن يفهم ويدرس علم الجمال والأدب العالمي والمقارن وكذلك أن يفهم أصول المذاهب الأدبيّة كي يكون حكمه نافذا وصحيحا. 4. أن يستعين بأسباب الثّقافة الّتي تمكّنه من تفسير العمل الأدبي وتقديمه للقارئ ليفهمه. وهذه الثّقافة تتوزّع بين التّاريخ والفلسفة والإجتماع والإقتصاد وعلم النّفس، ولكن بقدر. 5. أن يحدّد عمله النّقدي بثلاثة أطراف هي: أثر أدبي، أديب، ومتلقي أدب. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الصّلة وثيقة جدّا بين الثّلاثة وأنّها معا تثير مشكلات يستطيع أيّ ناقد أن يوازن بينها في التّعامل معها بحيث لا يطغى طرف منها على طرف. 6. إذا مال إلى مذهب فكري أو سياسي أو أحبّ طائفة دون أخرى فلا بدّ أن يصدر حكمه عن حياد كامل. 7. وفي فهمه لطبيعة العمل الأدبي من حيث هو إبداع جديد لواقع قائم أو يمكن أن يقع بأبعاد جديدة، يجب أن يكون حكمه مستندا إلى ما في المبدَع من قيم وعناصر جماليّة مؤثّرة، وإذاك يكون النّاقد مكلّفا بإبراز ما في المبدَع من أفكار تشكّل موقفا أو مواقف من الحياة. ويكون الحكم في صالح الأديب طالما كانت هذه المواقف مبتكرة لم يسبق إليها، أو كانت تتضمّن عناصر البقاء الّذي يحدّدها زمن معيّن.

هذه هي أساسيّات يجب على النّاقد الإهتمام بها لأنّها تمثّل طبيعة العمل النّقدي وتنبّئ في الوقت نفسه عنه.

ولكن إذا أراد ناقد ما إصدار حكم فنّي وتجاوز هذه الحدود، عليه الإحتراس لأنّ الأدباء نوعان: الأوّل راسخ والثّاني بادئ في حاجة لإرشاد. وهذا يعني أنّ النّقد أيضا نوعان: الأوّل تفسيري تستغلّ فيه أسباب الثّقافة بالقدر الّذي يجلي العمل ويوضّحه والثّاني حكمي يستند فيه إلى حيثيّات فنيّة: والسّؤال الآن أين نقدنا ونقّادنا ممّا تقدّم؟ 1. نجد الكثير منهم بعيدين عن النّظريّات الأدبيّة، لذلك يأتي نقدهم مرتجلا في أحكامه وسطحيّا. 2. نجدهم بعيدين عن النّزاهة بحيث يقعون في التّزلّف والمحاباة. 3. نجدهم يجهلون ضرورة المعرفة بالعلوم المساعدة، لذلك يغرقون في أنصاف الأحكام ويهابون النّص وصاحبه ويفتقرون إلى أسباب التّحليل الصّحيح. 4. نجدهم بعيدين عن نظريّات علم الجمال وأسس المذاهب الأدبيّة، لذلك يسقطون في متاهات كثيرة. 5. نجدهم لا يطّلعون على الآداب العالميّة والآداب المقارنة، لذلك يأتي فهمهم للأعمال الأدبيّة مسطّحا.

وحين أقول كلّ هذا لا أقصد اليأس ولا أشتهي إبراز العيوب فقط، وإنّما القصد هو معرفة أنّ النّقد ليس بالعمل السّهل، ومن حسن حظّنا أنّنا لم نعدم بعض النّقّاد الأفذاذ في مسيرة نقدنا المحلي، ولكنّهم قلّة قليلة، من هنا يصبح هذا الكلام مفيدا لمن ينوي أن يسير في هذا الحقل الشّائك.

وربّ سائل يسأل الآن طالما أنّك تقرّ بوجود نقد محلي ولا يهمّ الآن مستواه، وطالما أنّك ترى فيه عيوبا كثيرة فما الطّريقة النّقديّة الّتي تقترحها أو تفضّلها أنت؟ وأين أنت من هذا النّقد؟ يستمد السّؤالان الشّرعيّة من كوني أكتب بين الحين والآخر بعض المقالات والدراسات النّقديّة.

في الحقيقة لم اتبع طريقة بعينها في النّقد في البداية وذلك مردّه إلى ما يلي: إنّ الواحد منّا حين توجّه إلى النّقد الأدبي لم يقصد إلى ذلك مسبقا، ولكّنه حين درس دراسته الأكاديميّة وجد عنده ميلا للأدب فأحبّه ومال إليه وتذوّقه وراح بالتّجربة الفرديّة وبالتّدريب والعمل الفرديّين ينمّي نفسه في هذا المجال ويكتشف عيوبه ويحاول سبرها وسترها وتفاديها والتّغلّب عليها في آن معا.

وهنا من المفيد أن أذكر أنّ ما ينقص أقسام اللّغة العربيّة في جامعاتنا اليوم تعليم نظريّة الأدب وعلم الجمال فهما يشكّلان السّلاح الأوّلي للنّاقد الأدبي، من هنا كانت الجهود النّقديّة فرديّة ومن هنا كان التّخبّط في مدارج النّقد الأدبي، فإزاء وفرة المناهج النّقديّة وقف الواحد منّا في حيرة وفي موقف عسير كما يقول الدكتور محمد مصطفى هدارة في كتابه (مقالات في النّقد الأدبي ص 25 وما بعدها)..

إنّ النّاقد الحديث وجد نفسه مضطربا بين المدارس النّقديّة ذات الإختلافات الجوهريّة، هل ينساق وراء أصحاب المذهب العاطفي فيعبّر عن أحاسيسه المختلفة الّتي تنعكس عليه من قراءة النّص ويصف للقارئ هذه الأحاسيس أم أنّه يتابع أصحاب النّقد التّاريخي فيسعى وراء بيئة الشّاعر وعصره ويهتم بالأحداث السّياسيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة الّتي صاحبت مولد الشّاعر وواكبت حياته؟ أم ترى يلجأ إلى المدرسة النّفسيّة فيركّز إهتمامه في الشّاعر نفسه ينقب في ماضيه ويفتّش في ثناياه عن الصّدمات الّتي أصابته والعقد الّتي إرتبطت حياته بها؟ أم يتابع المدرسة الجماليّة فيعالج النّص بقضايا الجمال ومقاييسه فيبحث عن الإنسجام والتّرابط والصّور والموسيقى والألفاظ، إلخ من هذه الإتّجاهات والمدارس، من هنا كان التّخبّط وكانت الحيرة،.

ولذلك يجد القارئ أنّ ما كتبته من نقد كان في البداية تأثريّا ثمّ مال نحو الدّراسة الأكاديميّة ثمّ نحو التّكامليّة او تضافر المعارف الّتي تلم بكلّ جوانب النّص. وما أقوله عن نفسي ربّما ينطبق على الآخرين، ولكن في الفترة الأخيرة بدأت أشعر وغيري أنّ نقدنا مهما كان في تراكماته وكيفيّاته ما زال يفتقر إلى المنهجيّة، وحين أقول المنهجيّة أقصد بها تلك المنهجيّة الّتي يتحدّث عنها الدكتور حسين مروة في كتابه( دراسات نقديّة في ضوء المنهج الواقعي- المقدّمة) حيث يقول: القصد بالنّقد المنهجي ما يكون مؤسّسا على نظريّة نقديّة تعتمد أصولا معيّنة في فهم الأدب وفي إكتشاف القيم الجماليّة والنّفسيّة والفكريّة والإجتماعيّة في العمل الأدبي،. إعتماد هذه الأصول يقتضي من النّاقد أن يتجهّز، كذلك بقدر من المعرفة تتّصل بشؤون النّفس الإنسانيّة وقوانين تطوّر المجتمع وطبيعة العلاقة بين هذه وتلك وفهم الشّخصيّة الإنسانيّة في ضوء هذه المعرفة بالإضافة إلى الإلمام ضرورة بأهم قضايا العصر الّتي تساعد معرفتها النّاقد على تحديد موقف العمل الأدبي تجاه هذه القضايا فكريّة كانت أم إجتماعيّة أم سيّاسيّة أم فنيّة.

وبديهي أن تكون من جملتها ثقافة راسخة تمكّن النّاقد من التبصّر بالخصائص التّعبيريّة للغة الأدب وبالعلاقات الرّمزيّة بين الكلمة ومعناها أو بين العبارة ومضمونها، ويتطرّق مروة إلى الّذين يتخوّفون المنهجيّة في النّقد لأنّها في رأيهم ممكن أن تنقلب إلى عمليّة ميكانيكيّة وقوالب وأحكام جاهزة فيقول: من هنا يجب أن تتوفّر في النّاقد الحساسيّة الذّاتيّة القادرة على إكتشاف القيم الخاصّة في كلّ أثر أدبي بذاته وبخصوصيّته. وهذا يعني أنّ المنهجيّة النّقديّة لا تقتصر على عدم إنكار القيم الخاصّة في العمل الأدبي بل هي ترى ضرورة وجود هذه القيم ما دامت الشّخصيّة الإنسانيّة ذاتها متنوّعة الخصائص متعدّدة الجوانب بقدر تعدّد وتنوّع الشّخصّيّات، ومن باب أولى أن يكون هذا التّعدّد في ذات الفنّان المبدع، وكلّ عمل إبداعي يحوي تجربة لا تتكرّر عند فنّان آخر ولا في عملين صادرين عن فنّان واحد.

هذه المنهجيّة المذكورة عند حسين مروة تحدّد أيضا النّقد فيصبح تثقيف القارئ بإعانته على تفهّم الأعمال الأدبيّة وكشف المغلق من مضامينها وإدخاله إلى مواطن أسرارها الجماليّة وإرهاف ذوقه وحسّه الجمالي وإغناء وجدانه ووعيه بالقدرة على إستبطان التّجارب والأفكار والدّلالات الإجتماعيّة والمواقف الإنسانيّة الّتي يقفها الأديب خلال العمل الفني تجاه قضايا عصره أو وطنه أو مجتمعه. وطالما أنّ هذه هي وظيفة النّقد فكيف له أن يكون بلا منهج، وطالما أنّ النّقد كالشّعر بحث عن الحقيقة فكيف له أن يكون بلا أسس نظريّة يقوم عليها هذا المنهج وموقف إنساني سليم أساسه الحب ودافعه الحقيقي وحب البحث عنه بصدق وموضوعيّة وحب الإنسان أوّلا وأخيرا.

وطالما أنّ المنهج ضروري في عمليّة النّقد فما هو المنهج الّذي أرتأيه وأطمح إليه؟ وما هي الأسس النّظريّة والأدوات الإجرائيّة الّتي أطمح إليها لتصبح أسسا تطبيقيّة؟

إنّ المنهج الّذي أطمح إليه هو المنهج الواقعي، والمنظور الّذي أرتأيه هو الماديّة الجدليّة، يلخّص لنا الدكتور محمود أمين العالم في كتابه ( ثلاثيّة الرّفض والهزيمة ص 26) هذا المنهج الّذي يؤمن به كلّ من النّاقد والمفكّر محمد دكروب في كتابه ( الأدب الجديد والثّورة) والمفكّر الدكتور حسين مروة في كتابه (دراسات نقديّة) والمفكّر الدكتورعبد العظيم أنيس في كتابه (الثّقافة والثّورة)، يقول العالم ملخّصا هذا المنهج في معرض ردّه على أشياع المنهج البنيوي في النّقد.

إنّ الأدب عمل منتج دال مشروط إجتماعيّا بملابسات نشأته وبفاعليّته الدّلاليّة. وهو من حيث أنّه عمل دال إضافة كيفيّة للواقع لأنّه بطبيعته الإبداعيّة إضافة تجديديّة للواقع وقيمة مضافة إليه، ولهذا، كذلك هو ليس مجرّد قيمة معرفيّة مضافة بل هو، كذلك إضافة تجديديّة تغييريّة بفضل إبداعيّته ذاتها، على أنّه ليس إضافة تجديديّة تغييريّة إلى الواقع بإعتباره معطى إبداعيّا في ذاته فحسب بل هو إضافة تجديديّة إلى الواقع بفاعليّته الدّلاليّة المؤثّرة في هذا الواقع عبر تذوّقه وتأثيره الموضوعي عامّة، وهي فاعليّة ذات مضمون إجتماعي تاريخي بالضّرورة. على أنّها ليست فاعليّة مؤثّرة مقصودة قصدا من جانب المبدع وإنّما تنبع أساسا بشكل مباشر أو غير مباشر من البنية الإبداعيّة للعمل الأدبي ذاته قصدها المبدع أو لم يقصدها والأدب يتجلّى في نصّ له خصوصيّته التّعبيريّة، فهو بنية متراكبة من بنيات مكانيّة وزمانيّة ولغويّة وحدثيّة ودلاليّة متنوّعة ومختلفة ومتداخلة وموحّدة صياغيّا في آن واحد، وذات دلالة عامّة نابعة من حركة بنائها وتنميتها الصّياغيّة الدّاخليّة، وللنّص الأدبي قانونه العام والخاص معا، عموميته هي خصوصيّة أدبيّة الأدب وخصوصيّته هي تنوّع هذه الخصوصيّة الأدبيّة بإختلاف وتعدّد الاجناس الأدبيّة وتنوّع الإبداع الأدبي عامّة وتفتّحها إلى غير حد بتجدّد وتنوّع المصادر والعوامل الذّاتية والموضوعيّة للإبداع الأدبي.

هذا المنظور هو الّذي أطمح إليه، وهو الماديّة الجدليّة، وهو عمل ليس سهلا، وهي كماديّة جدليّة ليست وصفة جاهزة تفتح المغلقات بل يتعلّق الأمر أيضا بحسن الممارسة والخبرة.

هل وصلت إلى هذا المنهج؟ لا أدري القارئ هو صاحب الإجابة، وطالما انّ العمل فردي وطالما أنّ جامعاتنا لا تزوّدنا بمثل هذه النّظريّة وهذه الأدوات ولا بغيرها، يجيئ هنا دور إتّحادات الكتّاب.. فعلى إتّحاد الكتّاب الّذي يحترم نفسه ويحرص على تنمية الحركة الأدبيّة أن يأخذ على عاتقه تنمية الرّؤى والمناهج عند النّقّاد، وذلك عن طريق إرسال البعثات الدّراسيّة الإستكماليّة لتعميق المناهج، هذا هو الدّور الحقيقي الّذي من أجله تقام أتّحادات كتّاب وليس من أجل إرسال هذا الشّاعر أو ذاك لمهرجان شهر هنا وهناك. أملي أن تصل حركتنا النقديّة إلى ما نريده ونطمح إليه

إستقت هذه الورقة مادتها من المصادر التالية: 1. مقالات في الأدب والنّقد، للدكتور محمد مندور، وهو كتاب صادر عن دار نهضة مصر، القاهرة، 1973.

  1. النّقد الادبي الحديث، للدكتور أحمد كمال زكي، صادر عن الهيئة المصريّة العامّة للكتّاب، القاهرة 1972.

  2. النّقد الأدبي الحديث، للدكتور محمد غنيمي هلال، دار الثّقافة ودار العودة، بيروت، 1973.

  3. ثقافة النّاقد الأدبي، للدكتور محمد النويهي، صادر عن مكتبة الخانجي، ودار الفكر، بيروت، 1969.

  4. النّقد الأدبي أصوله ومناهجه، لسيد قطب، دار الشّروق، بيروت، بدون تاريخ.

  5. النّقد الأدبي الحديث، للدكتور محمد زغلول سلام، منشأة المعارف، الإسكندريّة،1981.

  6. مقالات في النّقد الأدبي، للدكتور محمد مصطفى هدارة، دار القلم، 1964.

  7. دراسات نقديّة في ضوء المنهج الواقعي، لحسين مرّة، مكتبة المعارف، بيروت، 1972.

  8. في الأدب الجديد والثّورة، لمحمد دكروب، الفارابي، بيروت، 1980.

  9. الذّاكرة المفقودة، الياس خوري، مؤسّسة الأبحاث العربيّة، بيروت، 1982.

  10. الموسوعة الفلسطينيّة، الجزء الثّاني، المجلّد الرّابع، بيروت، 1990، الدّراسات الخاصّة، مقال حسام خطيب عن النّقد الأدبي في فلسطين.

  11. ثلاثيّة الرّفض والهزيمة، لمحمود أمين العالم، المستقبل العربي، القاهرة، 1985.

  12. المعجم الفلسفيّ المعاصر، دار التّقدّم، موسكو،

drhbolus@yahoo.com