Translation

Exchange Rates

June 14, 2022


American Dollar 3.446 0.17%
Euro 3.594 -0.13%
Jordanian Dinar 4.860 0.17%
British Pound 4.172 -0.51%
Swiss Franc 3.466 0.12%
100 Japanese Yen 2.567 0.40%

Data courtesy of Bank of Israes

أهمية تدوين التراث الشفاهي كمصدر تاريخي

editorial board, 27/4/2011

يبدو أن أهمية التراث الشفاهي، واستعماله كمصدر تاريخي، تزداد في الآونة الأخيرة، ويلقي رواجًا في الأوساط العلمية. ولعل ما أخر دخول التراث الشفاهي إلى دائرة التاريخ أن المؤرخين ينظرون إلى ذلك التراث نظرة غير جدية، ويعّدونه ضربًا من الفنون العشبية التي لا يمكن الركون إليها. وهذه الورقة سوف تطرق لموضوع التراث الشفاهي من خلال الوقوف عند قضايا ثلاث: الأولى علاقة التراث الشفاهي بالتاريخ، والثانية أهمية المصادر الشفاهية. أما القضية الثالثة، فهي عن تحويل الرواية الشفاهية إلى تاريخ مدونّ، مع أمثلة مختصرة عن واقع التراث الشفاهي في كل من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. وبداية فإنني كلما اشتغلتُ بقضية تتعلق بالتراث الشفاهي واجهتني مشكلات، منها: تذّكر قول روبرت لوي Robert Lowie "كيف يمكن للمؤرخ أن يخدم نفسه باعتقاده أنه يحتاج فقط إلى أن يستجوب السكان المحليين لكي يتعّرف على تاريخ" أو قوله أيضًا: إنني لا أستطيع أن أعلّق أية قيمة تاريخية على الروايات الشفاهية تحت أية ظروف"([1]) ومع هذا فإن تراث الشعوب ما يزال يحمل في طياته الشيء الكثير مما يمكن معه تلمس حقائق، ومعلومات نفسية لا نجدها في التاريخ المدوّن، ويجعلنا نحن المؤرخين أمام واقع لا نقبل معه أقوال روبرت لوي على علاتّها، ذلك أن كل مأثورة أو حكاية شعبية، وكل تقليد من التقاليد يرجع في أصله إلى بعض الحقائق المحددة في تاريخ الإنسان. أما ما جعل روبرت لوي ومن حذا حذوه يهملون التراث الشفاهي؛ فهي نزعة السيطرة النصّية Textuality على عقول العلماء والباحثين، تلك النزعة التي تجعلنا أيضًا لا نتعامل مع التراث الشفاهي إلاّ من خلال النصوص المدونة([2]).

ومن هذا المنطلق يمكن أن يتذكر المرء أقوال آخرين يشيدون بأهمية التراث الشفاهي كقول فيدر A. Feder "إن المأثورات يجب أن تكون مقبولة لأنها تستحق الثقة"([3]) وليس هذا كل ما واجهني في مثل هذه البحوث، فقد عانيت الكثير في قضية الاصطلاحات وتحديد معانيها، ذلك أن موضوع التراث الشفاهي يكتنفه الغموض، وأحسب أن مرد ذلك أن موضوع التراث الشفاهي يكتنفه الغموض، و أن علم التراث الشفاهي علم تنازعه العلوم، إن صح التعبير، بل هو علم مُشترك بين التاريخ وعلم الاجتماع، والانثروبولوجيا، والأدب، واللغة، وغيرها من العلوم الإنسانية الأخرى، وحتى عندما بدأ يستقل تحت مسمى علم الفولكلور Folklore فإنه بقي غامضًا من حيث تحديد المصطلحات والمناهج([4]).

لقد نقل الدكتور نبيل سلامه من قاموس لاروس Larousse أن التراث الشفاهي هو: "مجموعة التقاليد من أساطير ووقائع ومعارف ومذاهب وآراء وعادات وممارسات"([5]). أما قاموس روبير فيُعرف التراث الشفاهي بأنه "انتقال غير مادي للمذاهب والممارسات الدينية والأخلاقية المتوارثة من عصر إلى آخر بواسطة الكلمة المنطوقة"([6]). ويزداد الأمر تعقيدًا عندما ننظر في التعريفات التي أوردها المشتغلون بهذا العلم، وسيرد شيء من هذا في ثنايا البحث.

رأيت أن أتبنى ما يراه المؤرخون من أمثال دانيل ماكول Daniel McCall تجاه قضية المصطلحات، وأختار مصطلح "التراث الشفاهي" في مجمل صفحات هذا البحث، وذلك لسببين: الأول أن كثرة المصطلحات للعلم الواحد أو حتى لفروعه تُعقّد موضوع البحث وتُشعبّ مسالكه. والثاني أنني وجدت أن اصطلاح التراث الشفاهي أقرب للتاريخ من غيره من الاصطلاحات الأخرى من مثل: التراث الشعبي، أو المأثورات الشعبية، أو الفولكلور وغيرها كثير، وهو ما اختاروه والتر أونج Walter J. Ong المتخصص في الآداب الشفاهية([7]) وجملة القول: إنه لا مشاحّة في الاصطلاح ما دام يُعبر عن المراد. من هنا خطر ببالي سؤال أراه مهمًا في هذا الميدان وهو: ما علاقة التراث الشفاهي بالتاريخ؟

علاقة التراث الشفاهي بالتاريخ:

إن تخلي المؤرخين عن المصادر الشفاهية قد ترك للمختصين في الفولكلور والانثروبولوجيا الميدان واسعًا مما جعل تلك المصادر تنأى عن بُعدها التاريخي، ولم يعترف المختصون في تلك العلوم بأهمية التاريخ في دراسة التراث الشفاهي إلاّ في مطلع عقد الخمسينيات من القرن الميلادي الماضي. ولعل السبب -كما أسلفت- هو سيطرة علماء الفولكلور على المصادر الشفاهية، وكانوا يطلقون على تلك المصادر اسم الأساطير والخرافات الوعظية Didactic legends، وكانوا يرونها تدل على المعنى الفلسفي والمغزى التعليمي أكثر من كونها تحمل أية تفاصيل تاريخية. بل وصل الأمر ببعضها على التصريح بأن المصادر الشفاهية لا تحتوي على حقائق تاريخية([8]). إن هذه الأقوال وأمثالها هو ما أخر الاستفادة من التراث الشفاهي كمصدر من مصادر التاريخ المُتعددة. ومع هذا لعلي لا أُبالغ إذا قلت إن التراث الشفاهي وثيق الصلة بالتاريخ؛ ذلك أنّ الأول يعدٌّ مرآة المرحلة الحضارية التي يعيشها الناس، وهو يُعبّر عن أفكارهم وعواطفهم، كما أنه يصور شيئًا غير يسير من النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية السائدة، بل إن بعض الباحثين يعتقد أن التاريخ المدونّ ولد في أحضان التراث الشفاهي([9]).

إن مكونات التاريخ الشفاهي هي مكونات التراث الشعبي من مثل: الحكايات، والقصص، والسير الشعبية، والأمثال والحكم، والغناء، والشعر، فهل يمكن والحال هذه أن يتجاهل المؤرخ التراث الشفاهي؟ أظن أن الإجابة عن مثل هذا السؤال هي بالنفي، إذّ إن المأثورات الشفاهية يمكن أن تعزز الثقة في بعض النواحي التاريخية، مع العلم أن بعض العلماء يرى العكس هو الصحيح، إذ يجب في نظرهم أن نفحص التراث الشفاهي من منظور التاريخ المدّون أو الآثار أو اللغة([10]).

لقد ذهب بعض المؤرخين المشتغلين بالتراث الشفاهي إلى ضرورة التعامل معه بطريقة تختلف عن بقية العلماء المتخصصين في علوم أخرى، من هنا قدّم باور W. Bauer تقسيمه للمأثور الشفاهي من منظور تاريخي، واقترح تقسيمه إلى قسمين: الأول يشمل كل المصادر المعروفة أو الثابتة أو المتغيرة الصحيحة أو المُحرفة. أما الثاني، فهي المصادر التي لم يعرف مؤلفوها والتي انتشرت في المجتمع بطريقة غير معروفة من مثل: الحكايات الشعبية، والأساطير، والملاحم، والسيّر، والنوادر والأمثال، والأغاني الشعبية([11]). ولقد أضاف آخرون الإشاعة وهي في نظر الباحث قد تحمل شيئًا من التاريخ، ولكن شريطة أن تُعززها مصادر تاريخية معروفة، أما الملاحم والسيّر والنوادر؛ فإنه يحسُن استقصاء وسيلة نقلها، ويُفضّل استبعادها إذا احتوت على تناقضات. أما الأغاني؛ فهي في نظر الكثيرين دعاية مقصودة قد تضر بالتاريخ أكثر مما تنفعه.

لقد كثر المؤرخون المشتغلون بالتراث الشفاهي ويأتي على رأسهم فاج D. Gage وأليفر R. Oliver اللذين استخدما المأثورات الشفاهية كمصدر تاريخي، ويرى من درس أعمالهما أنهما لم يطورا نظرية أو طريقة للتعامل مع المأثور الشفاهي في ميدان التاريخ كما فعل يان فانسينا J. Vansina فيما بعد.

لقد عمل بان فانسينا على إبراز القيمة التاريخية للتراث الشفاهي والأنواع الأخرى من التراث الشعبي في كتابه الذائع الصيت الموسوم بـ (المأثورات الشفاهية: دراسة في المنهجية التاريخية) الذي صدر في طبعته الفرنسية الأول مرة عام 1961م ثم ظهر في طبعة إنجليزية عام 1965م في شيكاغو. لقد كان كتاب فانسينا مؤثرًا وظل مرجعًا للمؤرخين المشتغلين بالمصادر الشفاهية([12]).

أهمية المصادر الشفاهية:

إن الثقافات المعروفة والمدونة كانت في الأصل ثقافات شفاهية، فالإلياذة والأوديسة وغيرها من آثار اليونان كانت في الأصل شفاهية، وكان هوميروس أول مؤرخ شفهي وصلتنا أعماله مدونة، وجاء بعده هيرودتس Herodotus وتوكيديدس Thucydides وهما أول من جمع بين الرواية الشفاهية والمدونة. وكان الأول يقوم برحلات عديدة في آسيا الصغرى والشرق الأدنى بجمع القصص والحكايات حول تاريخ البلاد التي يزورها([13]). وفي العصر المسيحي الأول كان للروايات الشفاهية مكانة سامقة، ذلك أن أغلب المسيحيين لم يكونوا ملمين بالقراءة، ولذا تبرز الرواية الشفاهية في أسفار الإنجيل التي امتد تأليفها على مدى خمس وسبعين سنة،ومثل ذلك يُقال عن أسفار الأبوكريفا([14]). Apocrypha وفي العصور الوسطى الأوروبية لم يكن أمام المؤرخين إلاّ الروايات الشفاهية مصدرًا لتواريخهم. وكان جل اعتمادهم عليها وعلى مذكراتهم الشخصية أو على شهادة عيان. ولهذا السبب يعدّ (كتاب دوميزداي Bomesday Book) أول مصدر في تاريخ إنجلترا الاجتماعي والاقتصادي في الفترة النورماندية في عام 1086م. وكانت الروايات التي قُدمت مشافهةً هي عماد هذا الكتاب([15]). ومثل ذلك الأغنية الشعبية القصصية (البالاد) والشعر الإنجليزي القديم والوسيط، ونشيد رونالد كلها آداب شفاهية. كما استخدم المؤرخون العرب والمسلمون المادة الشفاهية بشكل واسع، بل إن قدرًا من التراث العربي المدّون، في ميادين علمية عديدة، كان تراثًا شفاهيًا قوامه التداول والرواية الشفاهية، وهناك إجماع على أن جل المحدثين والمؤرخين والإخباريين والأدباء والشعراء الأوائل قد استفادوا من المصادر الشفاهية. فالبلاذري (ت 298هـ) والطبري (ت 310هـ) والمسعودي (ت 346هـ) وابن خلدون (ت 808هـ) يأتون على رأس المؤرخين المسلمين الأوائل الذين اعتمدوا بشكل كبير على الروايات الشفاهية عند تأليفهم كتبهم، ويكاد الشعر العربي الجاهلي برمته أن يكون شعرًا شفاهيًا نشأ في وسط غنائي([16]).

ويرجع الفضل إلى علماء المسلمين الذين قننوا قواعد علمية للاستفادة من الروايات الشفاهية. أصبحت تلك القواعد فيما بعد علومًا مستقلة مثل علم الإسناد، وعلم الرجال وعلم الجرح والتعديل، ومصطلح الحديث، وغير ذلك كثير([17])؛ ومع هذا الواقع فإن عددًا من المؤرخين الآن لا يعترف بالمصادر الشفاهية، ويقول مسعود ضاهر: "إن هذه الظاهرة أمام تدوين الكثير من الحقائق التاريخية الجديدة التي يتم اكتشافها أثناء إجراء المقابلات الشخصية الشفاهية([18])". كما أدى إهمال المؤرخين للتراث الشفاهي إلى ترك هذا الميدان للمتخصصين في الأنثروبولوجيا والفولكلور الذين لا يهتمون بالماضي، ومن هنا جاءت أغلب أدبيات التراث الشفاهي المعاصرة ناقصة وغير مقنعة.

أما في العصر الحديث؛ فقد نشطت حركة الاستفادة من المأثور الشفاهي في ميدان التاريخي منذ القرن الثاني عشر الميلادي حتى القرن السادس عشر في أوروبا، ونتج عن ذلك كُتب تاريخية كنظام الحوليات، ومؤلفات عن تاريخ المدن وتاريخ الأسر الحاكمة. ثم ضعفت الحركة في القرن التاسع عشر. أما في أمريكا، فقد استمر الاهتمام بالتراث الشفاهي، ذلك لأنه يُشكل المصدر شبه الوحيد للسكان المحليين والمهاجرين على حد سواء. وبحلول القرن العشرين الميلادي ازداد الاهتمام بالمأثور الشفاهي في ميدان التاريخ، ولم يطلع فجر عقد الستينيات من ذلك القرن إلاّ وقد برزت حركة علمية قوية بقيادة يان فانسينا وآخرين من المؤرخين والأنثروبولوجيين والفولكلوريين تدعو إلى اعتماد المأثور الشفاهي مصدرًا من مصادر التاريخ([19]).

إن من يظن أن الروايات الشفاهية لا تصلح كوثائق ومستندات لدراسة التاريخ، قد يتراجع عن رأيه إذا تذكر أن أغلب الوثائق المدونة كانت في الأصل روايات شفاهية متناقلة قبل أن تدّون، وعلى هذا الأساس فإن الوثائق الشفاهية لا تقل أهمية عن الوثائق المدونة، ولا تتفوق الأخيرة على الأولى إلاّ بكونها تخضع لطرق متعددة للتأكد منها وخلوها من التزوير، ولكن ليس من الصعب أن نضع ضوابط مماثلة لإثبات صحة الوثائق الشفاهية قبل تسجيلها بواسطة آلات التسجيل أو تدوينها([20]).

بل إن المقابلة الشخصية، أو ما يُسميه بعضهم بالتاريخ الحي Life History لأجل تسجيل النص الشفاهي توضح أبعادًا نفسية وإنسانية لا يمكن الوصول إليها من خلال النص المكتوب.

فالمؤرخ في هذه الحالة يعيش الأحداث التاريخية التي يدرسها عبر بعض المشاركة فيها أو ممن سمعها من المشاركة، وله إمكانية الحوار المباشر معهم واستيضاحهم جوانب كثيرة عن الماضي، كما يستفيد المؤرخ بطريقة مباشرة من الانطباع العام الذي تركته الأحداث اللاحقة في نفس الفرد الذي شارك في صنع الحدث أو شهده أو سمعه ممن شهده، وهذا بدوره يساهم في ضبط الاستنتاجات العلمية التي يتوصل إليها الباحث، وذلك عن طريق اكتشاف حقيقة الأهداف التي يتوصل إليها الباحث، وأيضا عن طريق اكتشاف حقيقة الأهداف التي توخاها أولئك الناس من صنع أحداث محددة([21]).

إن المصدر المدوّن ليس سوى حوار الفرد مع ماضيه الشخصي، ولهذا السبب لا يجوز أن نبالغ في إبراز دور الفرد مهما كانت مرتبته الاجتماعية، كما لا يجوز المبالغة في بناء استنتاجات عامة على أساس آرائه الخاصة؛ فالفرد مهما كانت مرتبته الاجتماعية لا يمكن أن يكون صانعًا للحدث التاريخي بل مجرد مشارك فيه([22]).

والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الكثير من الروايات الشفاهية والمأثورات والتقاليد الشعبية وهي إلى حد ما (أطلال الماضي) تعرضت للتغيير والتفكك والتعديل والحذف والإضافة، ولهذا لا يجب أن ننظر إليها كحقيقة تاريخية مطلقة، وهذا ما ولّد لدي بعض المؤرخين مفهومًا مفاده أنّ المصدر الشفاهي لا يصلح إلا لدراسة المجتمعات التي لم تعرف التدّوين، ولهذا السبب أيضًا يرفض بعض المؤرخين اعتماد الرواية الشفاهية أو المصدر الشفاهي إلى جانب الوثيقة أو النص المدون. حقيقة الأمر -كما مر معنا- بعكس ذلك، فقد تم استعمال المصدر الشفاهي في الدول المتطورة، مثل: بريطانيا والولايات المتحدة منذ مطلع القرن العشرين، بالإضافة على أنه ينظر إلى الرواية الشفاهية على أنها مكملة للنص المدّون، ولا تقوم مقامه. وقد ثبت أكثر من مرة أن بعض المقابلات الشخصية الشفاهية تكشف حقائق تاريخية جديدة تُنشر لأول مرة.

إن المصدر الشفاهي ضرورة علمية لفهم حقائق التاريخ. وحقائق التاريخ في التعريف الحديث هي: كل ما تركه السلف من أعمال ومخطوطات ووثائق وتسجيلات وعادات وتقاليد وطقوس دينية، وفنون شعبية، وقصص شعبية، وأدوات وآلات متوارثة وغير ذلك ...

ومع أهمية التراث الشفاهي المتزايدة واهتمام العلماء به، فإن مواقفهم تبدو متفاوتة، ويمكن تبيّن خمسة مواقف حيال التراث الشفاهي وأهميته هي:

1 - أن التراث الشفاهي قد يحتوي على قدر من الحقيقية والصدق.

2 - أنه من المستحيل تبيّن مقدار الحقيقة في التراث الشفاهي وتقييمها.

3 - أن التراث الشفاهي لا يمكن الاعتماد عليه في كتابه التاريخ.

4 - أن كل العوامل المؤثرة في مصداقية التراث الشفاهي يجب أن تُفحص بعناية.

5 - يجب أن يخضع التراث الشفاهي للفحص الدقيق بواسطة المنهج التاريخي الصارم([23]).

تحويل الرواية الشفاهية إلى تاريخ مدّون:

كما قلنا فإن الرواية الشفاهية عرضة للتغيير والتبديل، والإنسان عرضة للنسيان، وقد تخونه الذاكرة أو يخلط بين الأحداث، أو ينحاز لجهة معينة أو رأي أو فكر يؤمن بهما، لهذا لا بد من دراسة الراوي نفسه، ولا بأس أن نطبق على الرواة شيئًا يسيرًا من منهج المحدثين، ولا بأس أن يقوم المؤرخ بدور المحقق الذي يستجوب الشهود من أجل الوصول إلى الحقيقة([24])، ولهذا يصح أن نقول إن الرواية الشفاهية معرفة تاريخية إذا كان مضمونها بشكل شاهدًا أو دليلاً يبحث عنه المؤرخ لتعليل ما وقع أو لتدعيم وجهة نظره، وبهذا تصبح الروايات الشفاهية مجرد أدلة أو كشوف نفي أو إثبات وجهة نظر معينة([25]).

ويقول الدكتور ميلاد المقرحي أن هناك ثلاث قضايا ينبغي اعتمادها عند تحويل الرواية الشفاهية إلى رواية مدّونة:

1 - إمكانية تعليم الكثير من الرواية الشفاهية في ميدان التاريخ.

2 - أن دراسة الماضي من خلال الرواية الشفاهية تشبه كل أنواع البحث التاريخي الأخرى فهي مزيج من الإثارة والرتابة.

3 - أن يوضع ما يُجمع من روايات شفاهية في متناول المؤرخين لتوسعة دائرة استخدامها، خصوصاَ لدى كثيرًا من المؤرخين الذين يقللون من أهميتها، لا بد من نشرها وجعلها متاحة مثلها مثل التاريخ المدون([26]).

من هنا تتضح أهمية أن يقوم المؤرخ بفحص الروايات الشفاهية وتقويمها ومعرفة الدوافع من ورائها وكذلك طريقة تناقلها، ولعل هذا العمل يقود إلى فحص آخر لا يقل أهمية عن الأول، وهو فحص الحبكة الأسلوبية، والهدف، والخلفية للراوي. كما على المؤرخ أن يفحص كذلك البناء الداخلي والخارجي للرواية الشفاهية من خلال المنهج المعروف لدى المؤرخين. فإذا تم كل ذلك بنجاح يمكن عندئذ تدوين الرواية الشفاهية؛ ومن ثم تصبح وثيقة تاريخية مثلها مثل الوثائق المعروفة.

لقد اشتط المؤرخون في إيراد شروط عديدة لتحويل الرواية الشفاهية إلى رواية مدونة، ولهم الحق في ذلك طالما أن أغلب التراث الشفاهي يحمل في طياته تناقضات عديدة مع التاريخ المدوّن. من ذلك أن أغلب الروايات الشفاهية تسودها ثلاثة مفاهيم ثقافية مهمة هي: افتقارها لمفهوم القياس الزمني، وعدم وضوح الفكرة التاريخية فيها، والثالثة النظر إلى الماضي بمثالية كبيرة. Idealization of the past وهذا كله يشكل إحدى المشكلات التي تواجه البحث في التاريخ الشفاهي.

وقد قام المؤرخون ومعهم بعض علماء الإنسانيات بدراسة موسعة للاستفادة من التراث الشفاهي، ولعل فانسينا من أوائل من انتبه إلى هذا الأمر، وقدم دراسة ممتازة تجمع بين التراث الشفاهي ومنهج المؤرخين الصارم. وقد نبه لأمر مهم، هو خلو المأثورات الشفاهية من أي نوع من أنواع التنميط المعروفة Typology ومع أهمية ما قام به، إلاّ أنه لم يُقدم تنميطًا عامًا، ولم أعرف حتى الآن من بحث في هذا الشأن المهم، اللهم إلاّ ما فعله ديفد هينج في كتابه (التاريخ الشفاهي)، وعمله لا يعد تنميطًا بقدر ما يعد خطوات أولية في التعامل مع المادة الشفاهية([27]). ولهذا أصبح لزامًا على المؤرخين التعامل مع أنماط متعددة، وهو ما يرهق المؤرخ ويستهلك وقته.

أما التنميط المحدود الذي اقترحه فانسينا عند تعامله مع الروايات الشفاهية الأفريقية فهو:

1 - الصيغ: مثل الألقاب والشعارات، والصيغ التعليمية، والصيغ الدينية.

2 - الشعر: مثل الشعر الرسمي، والشعر العام والخاص، والشعر التاريخي، وشعر المديح والهجاء.

3 - القوائم: مثل أسماء الأماكن، والأعلام.

4 - الحكايات: مثل الحكايات العامة، والمحلية، والعائلية، والأساطير، والذكريات الشخصية.

5 - التعليقات: مثل النظر في الرواية وهل لها سوابق، وهل هي رواية توضيحية، أم خاصة بالمناسبات العامة أو الخاصة.

وهكذا يتضح بجلاء الفشل الذي ألم بفانسينا عند تنميطه للشواهد التاريخية التي جمعها، فعلى الرغم من قوله إن المأثورات الشفاهية تعتمد على تجميع دقيق وتحليل للمعطيات، وكذلك إشاراته المتعددة إلى مصطلح الصيغ النمطية واقتراحه لعدد منها، وأنها تدخل في نسيج الشواهد التاريخية، فإنه لم يجعلها مرتبة ومتسقة مع فهرس ستيث نومسون المعروف عند دارسي الفولكلور بـ (Motif Index of Folklitreture) وهو الفهرس الوحيد للتعامل مع التراث الشفاهي.

كما أنه لم يهتم بالإسناد والرواة بالطريقة نفسها الموجودة عند علماء المسلمين([28]).

تتألف عملية البحث في مجال التراث الشفاهي من ثلاث مراحل متتالية هي:

1 - مرحلة جمع المادة من مصادرها الشفاهية.

2 - تليها مرحلة تصنيف ما تم جمعه وفهرسته وإيداعه في أرشيف.

3 - ثم تأتي بعد ذلك المرحلة الأخيرة وهي مرحلة الدراسة والتحليل.

أما جمع المادة الشفاهية فيتم بثلاثة طرق وهي:

أ - طريقة الملاحظة Observation.

ب - طريقة المشاركة Participation.

ج - طريقة المقابلة Intervies.

وكل طريقة من هذه الطرق لها إيجابياتها وسلبياتها، ويستحسن الجمع بينها، كما فعل العالمان الأمريكيان ملمان باري Milman Parry وألبرت لورد AIbert Lord اللذان قدما نظرية الصياغة الشفاهية The Oral Formulatic Theory. وهي نظرية تُعد الآن من أحدث النظريات في مجال البحث العلمي المتعلق بالتراث الشفاهي من حيث الجمع والتعامل([29]).

وعند الوصول إلى هذه المرحلة يرى بعضهم ضرورة تغيير مسمى الرواية الشفاهية إلى مسمى التاريخ الشفاهي، الذي يُشكل الآن فرعًا متناميًا من فروع علم التاريخ وأحسب أنه يوجد نوعان من التاريخية الشفاهية Oral Historiography، وهما: التاريخ الشفاهي Oral Histrory، والرواية الشفاهية Oral Tradition، فالأول فرع من فروع التأريخ أصبح فيما بعد علمًا. أما الثاني فيشكل مصدرًا من مصادر التاريخ: ويشمل التقاليد والثقافة الشفاهية؛ وهي التي تنتقل من جيل إلى آخر عن طريق الرواية وليس عن طريق الكتابة، والتراث الشعبي عنصر من عناصر الثقافة، ولكن لا يمكن عدّ كل تراث شعبي متواتراً مقبولاً ليدخل في مسمى الرواية الشفاهية ما لم يكن منتشرًا في المجتمع، ومثله الرواية الشفاهية التي هي الذكريات المتعلقة بالماضي، ولكن لا يمكن أن تنتقل من حيز الرواية الشفاهية إلى حيز التاريخ الشفاهي ما لم تكن متواترة ويؤيدها شيء من التاريخ المكتوب.

ولعله من المفيد الاطلاع على العمل الجيد الذي ألفه كوللوم ديفز وزملاؤه Cullo, Davis, Kathryn Back & Kay Maclean بعنوان (التاريخ الشفاهي من الشريط إلى الورق Oral History from Tape to Type) وفي أربعة فصول تحدث المؤلفون عن: خطوات جمع التاريخ الشفاهي، وتحويل الروايات الشفاهية إلى تاريخ مدّون، ولقاء العامة ونشر التاريخ الشفاهي، وأخيرًا إدراك التاريخ الشفاهي. إن هذا العمل يمكن تبينه مع تغيير طفيف ليصبح مناسبًا لدول منطقة الخليج العربي([30]).

وفي هذا الشأن يمكن إلقاء نظرة سريعة على أهم المحاولات العلمية لتحويل التراث الشفاهي إلى تاريخ مدوّن في منطقة الخليج، وسنختار المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة كمثلين.

وبداية لا بد من التنويه إلى أن استعمال التراث الشفاهي كمصدر في دراسة التاريخ في بلدان الخليج العربي حيث العهد، إذ كان معظم المؤرخين والإخباريين يركنون إلى المصادر المدوّنة، مثلهم ثمل نظرائهم في العالم العربي. ومن المهتمين بالتاريخ الشفاهي في المنطقة: عبدالله صالح المطوع، وفالح حنظل، وعبدالله العثيمين، ولوريمر، ومايلز، وكيلي.

نستطيع أن نعدّ بعض الوثائق المحلية في أول أمرها وثائق شفاهية تم تدوينها خشية ضياعها أو لأهميتها في مجال الحقوق أو التاريخ المحلي. وقد أختار الدكتور سيد حامد حريز أربعة مخطوطات تاريخية تشكل في ظنه أهم الوثائق الشفاهية لتاريخ الإمارات العربية المتحدة، وقد دونت في أوقات مختلفة وهي: (كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة لسرحان بن سعيد الأزكوي) (والفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين، والشعاع الشائع باللعان في ذكر أئمة عمان وما لهم من العدل والشأن) وكلاهما لحميد بن محمد بن رزيق. (والجواهر واللآلي في تاريخ عمان الشمالي) لعبدالله بن صالح المطوع([31]) والواقع أن اختيار سيد حريز موفق لأن محتويات تلك الوثائق التاريخية كانت لوقت قريب مما يتناقله الناس مشافهة، كما أنها أضاقت لتاريخ منطقة الخليج المدوّن حقائق وتفسيرات جديدة.

أما في المملكة العربية السعودية فيمكن أن نختار عددًا من الكتب تمثل هذا التوجه، ولكننا سنقتصر على أمثلة محدودة من مثل: كتاب (تاريخ ملوك آل سعود) للأمير سعود بن هذلول آل سعود وخاصة في الفترة التي عاصرها المؤلف([32])، وكتاب (نبذة تاريخية عن نجد) لضاري بن فهيد الرشيد([33]). وكتاب (الأمير عبدالله بن عبدالرحمن بن فيصل 1311- 1396هـ) لصلاح الدين المنجد([34]). تدخل ضمن الوثائق الشفاهية المدونة حديثًا وما قلناه عن المخطوطات السابقة يمكن أن يُقال عن هذا الكُتب، فقد أضافت شيئًا جديدًا للتاريخ المدوّن لنجد وتاريخ المملكة العربية السعودية أما المحاولات العلمية المعاصرة في توظيف الشعر الشعبي الشفاهي كمصدر تاريخي فمن أشهرها: بحث لعبدالله العثيمين وفيه جمع جملة من الأشعار المتداولة لتاريخ المملكة([35]). ولكاتب هذه السطور محاولة في تفسير دعوة مسلمة بن حبيب الحنفي، المشهور بمسيلمة الكذاب من منظور أسطوري، وقد توصل إلى تفسير جديد للأقوال المنسوبة إلى مسيلمة، وهو خلاف المُعتقد لوقت قريب من أن الأساطير الشفاهية لا فائدة منها للتاريخ([36]). ولعل من المفيد في هذا الصدد الإشارة إلى أن أول من لفت أنظار العلماء إلى أهمية الأساطير في البحوث التاريخية هو ماكول McCall في دراسة المستفيضة عن الأساطير، وفيها ثبت لكل ذي رأي أهميتها، ثم جاء بعده سير لورانس جوم Sir Lawrance Gomme وأثبت بطريقة لا لبس فيها أهمية الأساطير في الدراسات التاريخية، ولعل كتابة الموسوم بـ (الفولكلور كعلم تاريخي Folklore as an Historical Science) خير ما يمكن الركون له في هذا الشأن([37]).

وخلاصة القول: إن تدوين التراث الشفاهي واستعماله كمصدر تاريخي لم يعودا أمرين مطروحين للنقاش، فقد ثبت لكل مُتابع أهميتهما، ولقد تبنت هذا الأمر مؤسسات علمية وطنية في دول الخليج العربي من مثل: مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية بالدوحة، ومركز زايد للتراث والتاريخ في مدينة العين، ومركز بحوث التاريخ والتراث الشعبي في جامعة الإمارات العربية المتحدة، ووحدة التاريخ الشفاهي بدارة الملك عبدالعزيز في مدينة الرياض.. ويمكنني أن أؤكد من منطق المطلع والمُشارك في مشروع رصد وتدوين الروايات الشفاهية في المملكة العربية السعودية أن العمل يقوم على أساس علمي متين. وهو يسير بتؤدة ونجاح، وقد تم تسجيل أكثر من 10000 مقابلة، ومن المؤمل عند الانتهاء من المشروع ونشره أن يُصحح هذا التراث الشفاهي كثيرًا من نقاط الاختلاف أو الغموض في بعض جوانب تاريخ المنطق المدوّن.

وحقيقة أخرى يجب ألاّ تغرب عن أذهاننا. وهي أن التراث الشفاهي والمحافظة عليه أمران مهمان لإبراز الخصوصية الثقافية التي تعدّ من القضايا الرئيسة في حياة الشعوب([38]). وهو أيضًا الأمر الذي فطنت له اليونسكو منذ عام 1984م وأعلنت في خطتها آنذاك ضرورة المحافظة على التراث الشفاهي أيّاً كان نوعه، وجعلته من محفزات التنمية الوطنية([39]).